الخميس، ديسمبر 16، 2010

سُـورَة كَربَـلاء ،، آيَـةُ الحُسَيْـن


*
[ اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ]
*
بهذا الدعاء ابتدأ الحسين يوم العاشر من المحرم ، بعدما خطب في القوم وذكرهم بحسبه ونسبه ، فلم تنفع التذكرة ولا الموعظة ، فلا يفيد الصوت اذا لم تسمعه الاذن .
*
وتقدم الأصحاب أولاً ، وبدأت حملات القتال ، وكان الحسين يرى بأم عينيه مصارع رجاله وأحبائه واحداً بعد الآخر ، ويد الموت تخطف أرواحهم من هذه الدنيا . رأى دماءهم تصبغ وجه الأرض ، كل بقعة سقط فيها جسد شهيد تصبح قطعة من الجنة . وتواصل القتال حتى توسطت الشمس سماء الدنيا ، وحان وقت صلاة الظهر ، فصلى الامام مع الذين تبقوا من أصحابه صلاة الخوف . وانتدب رجال منهم يحمون المصلين ، ووقف رجل يصد النبال بصدره دون الحسين عليه السلام ، حتى انتهى الحسين من صلاته فسقط صريعاً لافظاً أنفاسه الأخيرة وهو يقول : ( اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك السلام عني ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك بنصرة ذرية نبيك )
*
ثم التفت الى سبط الرسول الاعظم قائلاً : ( أوفيت يابن رسول الله؟ )
فأجابه المظلوم : ( نعم أنت أمامي في الجنة ) . ففاضت روحه وهو سعيد ..

*
[ الـسَّـلامُ عـلـى قَـتـيــلِ الـعَـبـَرات وأسـيـرُ الـكُـرُبـات ]
*
انفنى الأصحاب ، قطعت أوصالهم وسالت دماءهم والامام الصابر ينظر إليهم يبكيهم وهو يتلو هذه الآية : { من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
*
وبزغت أقمار بني هاشم ، وكان أول البارزين هو علي الأكبر شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تبعه بنو أبي طالب ، وأبناء مسلم بن عقيل ، والمولى يصبرهم ويواسيهم ، فلما حمى الوطيس ، واشتد القتال ، وأصاب الأقمار الخسوف ، قال : ( صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً )
*
ولما عاد الحسين من مصرع أخيه العباس عليهما السلام ، باكياً محني الظهر يكفكف دموعه بكمّه ، وقد رأى أن سده المنيع قد انهار ، وأن الشهادة تطلبه عزم على لقاء ربه . فأقبلت أخته زينب وبيدها طفل ، رضيع الحسين ، قائلة له : ( أبا عبدالله إن هذا الطفل لم يذق الماء مذ فترة ، خذه الى القوم لعلهم يسقونه شربة من الماء . فلقد جف اللبن في صدر أمه )
*
كانت الرباب قد أحضرت عبدالله الرضيع الى زينب ودموعها جارية قائلة لها : ( سيدتي خذي رضيعكم فإنه عطشان ، وأنا أستحي أن أراه بهذه الحالة ولا أقدر أن أسقيه )
*
فأخذ الحسين رضيعه العطشان ، وهو طفل قد بلغ الستة أشهر ، وأتى الى القوم وقال لهم : ( يا قوم إن كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الرضيع ) . وطلب منهم سقاية الماء لهذا الصغير الذي في حجره ، فدار حديث في جانب الأعداء ، فمنهم من قال اسقوه ومنهم من قال لا تسقوه . فخاطب عمر بن سعد حرملة بن كاهل الأسدي وقاله له ( ويلك يا حرملة اقطع نزاع القوم ) ، فقال : ( أأسقه ماء؟ ) ، فأجاب عديم الرحمة : ( بل سدد السهم على نحر الرضيع ) .
*
قال الامام زين العابدين ، وتاج البكائين ، بعد زمن من واقعة الطف : ( إن حرملة بن كاهل الأسدي أحرق قلوبنا أهل البيت بقتله أخي عبدالله الرضيع ) ثم رفع يديه ودعى ربه : ( اللهم أذقه حر الحديد ، اللهم أذقه حر الحديد ، اللهم أذقه حر النار )
*
وبينما الحسين في حديث مع القوم ، والطفل ساكن لا يتحرك قد أنهكه الظمأ . اذ أحس الأب بحركة مفاجئة من ابنه الرضيع ، نظر إليه فرأى سهماً أصاب نحره وذبحه وهو في حجر والده . فعانق الطفل أباه قبل الفراق وتدفقت منه الدماء ، فملأ الحسين يده من دم رضيعه ورمى به نحو السماء قائلاً : ( اللهم لا يكون هذا أهون عليك من فصيل ناقة صالح . هوّن ما نزل بي أنه بعين الله ) . فلم تسقط على الأرض قطرة واحدة ، وتحول الدم المرمي الى رذاذ ماء ، وصارت تطوف حول العالم تسقي الاطفال الرضع فتروي ظمأهم فيخلدون ذكرى الرضيع الخالدة . حينها غرق المحروم في بحر الأحزان العميقة ..
*
[ مـا إن أحَـسَ حـرَّهُ انتفـض الجنــين
فـل القمـاط و ارتمـى فـي عنـق الحســين ]

*
هذا رضيعه فلذة كبده مقتول ، فلم يكتفي القوم بقتل الكبار ، بل اغتالوا حتى الصغار . وبينما الحسين عليه السلام واقف بين الخيام اذ أتاه صوت يقول : ( دعه يا حسين فإن له مرضعة في الجنة ) . وعاد أبي عبدالله ، واستقبلته ابنته سكينة قائلة : ( أبه لعلك سقيت أخي ماءً وجئتنا ببقيته ؟ ) لم يجبها أباها وكان قد أخفى الرضيع بين ملابسه . فأحست الصغيرة بخبر مفجع يطرق قلبها الصغير فقالت : ( أبه هل شرب أخي الماء أم مات من العطش؟ ) . فكشف لها عن رضيعه قائلاً : ( بنية سكينة هاكِ أخاك مذبوحاً من الوريد الى الوريد ) . وارتفعت الصيحة من أمه . لو كانت تدري أنهم سيقتلوه لما تركته من يدها ، لو كانت تدري أن قلوبهم قاسية حتى مع الأطفال لأبقت صغيرها في حجرها ، فصدرها الجاف القاحل أرحم من صدورهم .
*
وقــف الـسـبــط عـلـيــهـم بـاكــيـاً ألــقـى الـســلام
فـغــدت تـنـتــفـض الاجـســاد شـوقــاً وهــيـام
*
اتجه الحسين الى أصحابه ، رآهم أجساداً هامدة قد غادرتها الروح ، لكنها تنبض بالوفاء والفداء ، خاطبهم : ( يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء ، مالي أناديكم فلا تجيبون! وأدعوكم فلا تسمعون! نيام أنتم أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودتكم عن امامكم فلا تنصروه . هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول ، فقوموا عن نومتكم أيها الكرام وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام ، ولكن صرعكم والله ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، والا لما كنتم عن نصرتي تقصرون ) .
*
فلم يسمع منهم جواباً ، فنادى في البراري : ( وا قلة ناصراه . ألا هل من ناصر ينصرنا ؟ ألا هل من معين يعيننا ؟ ) . ووصلت صيحته الى قاع البحر فارتعشت الحيتان في المحيطات ، والطيور في أعالي السماوات ، والوحوش في الصحاري والأدغال ، وكلها تتمنى الموت دونه .
*
فلما أيس من الحياة ، توجه الى خيمة السجاد ، يودع ابنه ، فلما رآه زين العباد قام جالساً وأسندته السيدة زينب عليها السلام على صدرها ، بادره السجاد بسؤال : ( أبه كلما أتيت لي كان عمي العباس يأتي معك . أين عمي العباس؟ ) فملأت الدموع عينا المحزون ورق قلبه لهذا الشاب الضعيف ، الذي سيلاقي الأهوال من بعده ، فقال له : ( ولدي قتل ) ، فسأله : ( أين أخي علي الأكبر؟ ) ، قال له :( قتل ) وأراد أن يقطع كلام ولده الذي يفتت القلوب فأضاف : ( ولدي اعلم أنه لم يبق في الخيام من الرجال إلا أنا وأنت ) .
فصاح السجاد من فوره : ( عمة زينب عليّ بعصا والسيف )
قالت : ( ما تصنع بهما؟! )
قال لها : ( عمة زينب أما السيف فأذب به عن حرم رسول الله ، أما العصا فأتوكأ عليها )
قالت له : ( يابن أخي أنت عليل لا تقوى على النهوض! )
فقال لها : ( عمة زينب أوما تنظرين لقد بقي أبي وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معينا )
فأوصى الحسين أخته زينب قائلاً : ( احبسيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد ) .
*
[ مـن ذا يـقـدِّمُ لـي الـجـوادُ ولامـتـي والـصَّـحـبُ صَـرعـى والـنَّـصـيـرُ قـلـيـلُ
فـأتـتـهُ زيـنـبُ بـالـجـوادِ تـقـودُهُ والـدَّمْـع مِـن ذِكـرِ الـفِـراقُ يـسـيـلُ ]
*
وخرج من الخيمة يريد جواده فنادى : ( من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن محمد المصطفى ، من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن علي المرتضى ، من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن فاطمة الزهراء )
*
فأبكى صوته حتى الجمادات في الكون . وكان اذا طلب جواده أتى له العباس بالجواد ، ولكن من أين للحسين بالعباس؟ فهو على الفرات قد قطعت منه اليدان وتهشم رأسه . فأقبلت أم الأحزان زينب بجواد الحسين قائلة : ( لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ) ، فبكت وقالت : ( أخي هل رأيت قلباً أقسى من قلب أختك زينب وهي تقدم جواد المنية الى أخيها ) . فمسح الحسين يده على صدرها يدعو الله أن يلهمها الصبر . وأخذ يوصيها : ( أخية زينب أوصيك بتقوى الله . أخية زينب أوصيك بالعيال خيراً ) . وكانت نِعم الحافظ لعياله ، فكانت تسقيهم وهي عطشى وتطعمهم وهي جائعة ، وتدفع عنهم الموت وتواجهه.
*
وصاح المظلوم بقرب موعد المصاب والفجيعة ونادى بنسائه : ( يا أم كلثوم ، يا سكينة يا رباب هلممن للوداع فهذا آخر الوداع واللقاء في الجنة ) . فأحطن به بنات رسول الله هذه تسأله : ( الى أين يا حمانا؟ ) وأخرى تقول : ( الى أين يا رجانا؟ ) . وهو يصبرهن ويواسيهن . ثم التفت ولم يرى ابنته سكينة فسأل عنها ، قيل له أنها في الخيمة ، فذهب إليها ورآها جالسة في طرف الخيمة واضعة رأسها بين ركبتيها وهي تبكي . فقد حان وقت الوداع وحان وقت الضياع . فاقترب منها الحسين ومسح على رأسها ، يصبرها على الفراق ، فكانت دموع ابنته تحرق قلبه وروحه ، فوضعت رأسها على صدر أبيها واحتضنته وقالت له : ( أبه ردنا الى حرم جدنا ) ، ولكن هيهات أن يدعوه الى ذلك ، ودعها وخرج . أخذ يوصي النساء بالصبر وحفظ العيال ، أوصاهم بأن يطيعوا بعده ابنه زين العابدين فهو الامام والحجة من بعده على الخلق أجمعين . قال لهن : ( استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم الى خير ، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة . فلا تشكو ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم ) واستودعهم الله .
*
ركب جواده وحركه ما تحرك ، وأطرق الفرس برأسه الى الارض فنظر الحسين ، فرأى طفلة من أطفاله متعلقة برجل الجواد ، فنزل إليها الحسين وسألها : ( بنية ماذا تريدين؟ ) ، فجلست في حجره وقالت : ( أبه امسح على رأسي كما يفعل باليتامى )
قال لها : ( بنية أنت لست بيتيمة! )
فقالت له والدموع تخنقها : ( أبه أنا أعلم أنك ذاهب ولن تعود )
فآلم كلامها قلب الحسين ، ونادى زينب لتأخذها منه ، ومضى للميدان ..
*
[ تـريـث يـا أخــي أعـطـيـك أسـراري قـبـيـل الـمـوت يـا صــونـي وأسـتـاري
وصـايــا أمــنـا فـي خـاطـري تـسـعـر فــدعـنـي ألـثـم الأضـلاع والـمـنـحـر ]
*
سمع صوتاً خلفه ينادي : ( مهلاً مهلاً يابن الزهراء ) . فلما وصلت إليه أخته زينب عليها السلام طلبت منه أن ينزل من على ظهر جواده ويكشف لها عن صدره وعن نحره ، ففعل ما طلبته ، قبلته في نحره وشمته في صدره ، ثم وجهت وجهها نحو المدينة قائلة : ( أماه يا زهراء لقد استرجعت الأمانة ، أماه لقد أديت الوصية ) ، فسألها الحسين : ( أخية زينب أي أمانة وأي وصية؟ ) قالت له : ( لما دنت الوفاة من أمنا فاطمة أدنتني الى جانبها وأوصتني قائلة : بنية زينب اذا رأيت أخاك وحيداً فريداً في كربلاء قد عزم على الشهادة ، فشميه في صدره وقبليه في نحره ) . هاجت ذكرى الأم في قلوب أبناء فاطمة ، تذكروا أيام عزهم بين جدهم وأمهم وأبيهم ، وهاهم الآن مشردون بين أناس لا تخاف الله ولا تراعي قرابتهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أرجعها عزيز الزهراء ومضى ناحية الميدان مرة ثانية ، سمع صوتها المتألم يناديه مرة أخرى فوقف لها . فلما وصلت إليه قالت له : ( دعني أتزود منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ) . كم هو مؤلم الفراق ولوعته ، لم يقدر قلب العقيلة على فراق نور وجه أخيها الحسين ، فهما متلازمان منذ الطفولة ، وكم هو صعب وداعه الآن وهي تعلم أنها ستواجه الرزايا بعده ، واذا التفتت لا ترى أحداً من اخوتها حولها يساندها حتى الحسين ..
*
أرجعها الحسين عليه السلام الى الخيمة ، ومضى ببطء الى الميدان . تقدم وتقدم ، لم يسمع ذلك الصوت يناديه ، وفي المرة الثالثة رجع الحسين عليه السلام بنفسه ، كم افتقدها في هذه الدقائق . رأى في الخيمة ضجة ، فلما رأينه النساء صحن وقلن له أن زينب قد غشي عليها . فأخذها الحسين بين أحضانه ، وصار يمسح على رأسها والدموع تهطل منه حتى أفاقت .
*
[ وهـيـهــات أن أسـلـو مـصـائـب كـربـلا * وتـلـك بَـكـاهـا قـبـلُ طــه الـمـكـــرّمُ ]
*
وصلت رسالة فاطمة العليلة ، الغريبة في ديارها ، الحزينة برحيل أهليها عنها الى أبا عبدالله في ظهر يوم عاشوراء ، بعد أن قتل أصحابه جميعاً حتى رضيعه . أخذ هذه الرسالة وقرأها وكان مكتوباً فيها :
*
( بسم الله الرحمن الرحيم . من الضعيفة المريضة ، العليلة فاطمة الى أبيها الحسين . أما بعد ، لقد طال عليّ الفراق ، وبَعُدَ التلاقي ، فأدركوني وإلا هلكت . ثم السلام على عمومتي وعماتي ، واخوتي وأخواتي ، يا أبا عبدالله قبِّل لي وجه أخي عبدالله الرضيع فإني مشتاقة إليكم ) .
*
دمعت عيناه ، التفت يمنة ويسرة فلم يجد أحداً من أهل بيته ، فكلهم قد صافح التراب جبينه ، وقطع الحِمام أنينه ، فنادى : ( هذه فاطمة تقرؤكم السلام )
*
فلما توسط الميدان ، ورأى أن الجموع قد احتشدت ، وكلها تريد قتله والفوز بدنياً فانية ، رفع رأسه الشريف الى السماء وناجى ربه : ( اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك . اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا )
*
وصار الأعداء يبرزون إليه ويقاتلونه ، فكان يقتلهم بضربة واحدة ، فهذا شبل علي في الميدان ، والفتى سر أبيه . وكان ينادي فيهم بين الحين والآخر : ( هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في اغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في اعانتنا؟ ) ، فكان لا يسمع ولا يرى ملبياً لندائه واستغاثته ، وكان يشفق عليهم من غضب الجبار ومن النار التي تتحرق شوقاً اليهم ، وكان يكثر من قول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )
*
كر عليهم كالليث الغضبان يحمي عرينه ، فكانوا يفرون من بين يديه كالجراد . وذكر لعين كان في جيش يزيد : ( والله ما رأيت مكثوراً قطُ قد قُتل ولدُه وأهل بيته واخوته وأصحابه أربط جأشاً من الحسين ، ولا أمضى جناناً منه . ولقد كانت الرجال تشد عليه ويشد عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً ، وهو رجل واحد فيشد عليهم فينهزمون بين يديه انهزام المعزى إذا شد بها الأسد ) .
*
فلما كثرت قتلاهم نادى عمر بن سعد : ( ويحكم هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب ) . فحملوا على سبط طه من كل جانب وصاروا يرمونه بالنبال ويضربونه بالسيوف من كل جهة . فلما كثرت جراحه ، وقف ليستريح ساعة ، فضربه لعين بحجر أصاب جبهته الشريفة ، فانبثق منها الدم ، فرفع قميصه ليمسح الدماء من على وجهه ، فرمى حرملة اللعين سهماً مسموم له ثلاث شعب وقع على قلب الحسين الطاهر . فانحنى الامام الهمام يريد اخراج السهم ، فلم يقدر على اخراجه إلا من قفاه فانفجرت الدماء كالينبوع ، فسقط على الارض قائلاً : ( بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ) ، وتوسد التراب ، وأخذ يصبغ لحيته بدمه وهو يقول : ( هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول الله وأنا مخضب بدمي ، أقول له قتلني فلان وفلان ) . وحاول جواد الحسين أن يساعد فارسه على النهوض فلم يقدر الحسين لشدة ما نزل به من المصاب ، فأخذ الجواد يمرغ ناصيته بدم الحسين وتوجه نحو الخيام ..
*
[ يــا فـاطِـمــة قُـومــي الـى الـطِّـفــوفِ
هــذا حـسـيــنٌ كـعـبــةُ الـسُّـيــوف ]
*
كان خيل الحسين يصهل باكياً ، شاكياً لرب العباد ، من هذه الظليمة الكبرى لسيد شباب أهل الجنة . ولما رأت ابنة علي جواد الحسين مقبلاً ، ورأت ناصيته مدمية والسرج ملوياً ، قالت له : ( يا جواد الحسين أين حسينٌ؟ ) . فأخذها الى حيث وقع شقيق روحها . ودهشت زينب لما رأته مملوءاً بالجراح والطعنات ، فأخذت تناديه : ( أخي بحق جدنا رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبانا أمير المؤمنين إلا ما خاطبتني ، وبحق أمنا الزهراء إلا ما كلمتني ) . ففتح وريث الأنبياء عينيه وقال لها : ( أخية زينب كسرت قلبي ، وزدتيني كرباً فوق كربي ، فبالله عليك الا ما سكت وسكنت ) . ولكن كيف تسكن وكيف تسكت وهي ترى حبيب الفؤاد ملطخاً بدمائه الزاكية . وأوصاها الامام أن تعود الى الخيام ، فأطاعت أمر مولاها وقامت ونظرت الى عمر بن سعد وقالت : ( ويحك يابن سعد أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه؟ ) فأشاح بوجهه عنها ودموعه تجري . فخاطبت جماعته : ( ويحكم أما فيكم مسلم! ) فلم يجبها أحد . فلقد أعلنوا كفرهم مذ خرجوا على سبط الرسول الكريم وقرة عين البتول .
*
فصاح ابن سعد : ( ويحكم أنزلوا وأريحوه! ) . فنزل إليه رجل ولم يقدر على قتله فولّى هارباً ، فلقد رأى قمراً على الأرض ، ومن يقدر أن يقتل الجمال كله؟ وذهب إليه رجل آخر فارتعدت فرائصه وألقى سيفه ورجع مدبراً ، رأى رسول الله ملقىً على الأرض ، فلم يجرؤ على قتل أشبه الناس بحبيب الله . فذهب إليه الشمر عليه اللعنة فلما رأى حجة الله ، رفسه فانقلب الامام عليه السلام ، ثم جلس على صدره فقال له الحسين : ( يا شمر لا تبتل بدمنا وأضمن لك شفاعة جدي يوم القيامة ) . فأجاب اللعين : ( قنطار واحد من ابن زياد خير لي من شفاعة جدك ) . فطعنه اثنا عشرة طعنة ، ليت شلت يداه ، وأخيراً وضع خنجره على نحر المظلوم ، فارتجت لفعلته السماوات السبع والعرش العظيم ..
*
[ هـل صـحـيـحٌ ذبـحـوكَ الـقـومُ لـم يـسـقـوكَ مـاء
هـل صـحـيـحٌ كـنـتَ مـلـقـىً دونَ رأسٍ فـي الـعـراء ]
*
قبل 57 سنة ، جاء الأمين جبريل عليه السلام بتربة كربلاء الى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعطاها لزوجته أم سلمة وأخبرها أنه حين يقتل الحسين يتحول هذا التراب الذي في القارورة الى دماً عبيطاً . وفي المدينة ، كانت أم سلمة نائمة ، فرأت في منامها رسول الله أشعث مغبر ، فسألته عن حاله فقال : ( قتل ولدي الحسين ، ولا زلت أحفر القبور له ولأصحابه ) ، فانتبهت من نومها فزعة فلما رأت القارورة ، وجدت أن التراب قد تحول الى دمٍ قانٍ.
*
كانت زينب في خيمة السجاد حين شعرت بتغير في الأجواء . أرعدت السماء معلنة غضبها ، وتزلزلت الأرض معلنة سخطها ، كادت تمور بأهلها من هذه الجريمة النكراء . تساءلت عقيلة حيدر : ( يابن أخي ما الخطب؟ ) ، فطلب منها أن ترفع طرف الخيمة ففعلت ، فصاح مفجوعاً : ( عمة زينب هذا رأس أبي الحسين على الرمح )
*
فاعتلى صوت النواح والعويل ، وهجم الأعداء على خيام آل الرسول وأضرموا فيها النيران ، ينهبون مافيها ويسلبون حرائر رسول الله . فقالت أم المصائب : ( يا بقية الماضين، وثمال الباقين أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا؟ ) ، فصاح السجاد : ( عمة زينب عليكن بالفرار ) . ففرن بنات رسول الله وهن يصحن : ( أي وا محمداه ، أي وا علياه ) . وفرت كعبة الرزايا ناحية التل الزينبي ، تقوم مرة وتقعد أخرى وهي تقول : ( ليت السماء انطبقت على الأرض ، ليت الجبال تدكدكت على السهل ، اليوم مات جدي اليوم ماتت أمي ) .
*
مات أصحاب الكساء في ذلك اليوم وتجددت أحزان زينب . رأت بعينها وفاة جدها رسول الله ، وآلام أمها وفراقها ، ومصائب أبيها وأحشاء الحسن المفتتة ، وكلهم هموم وغموم وقعت على قلبها منذ صغرها ، فلم تفارقها ، فبأبي التي ورثت مصائب أمها وغدت تقابلها بصبر أبيها . ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله . لا يوم كيوم الطفوف ، يوم الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى ..
*
حين أشعلوا النار في خيام آل طه ، فرت طفلة من بنات الحسين وكانت النار شاعلة في أطراف ردائها ، فلحق بها حميد بن مسلم ، وكان راوياً ينقل الوقائع ، فجاؤوا به الى كربلاء لينقل تلك الواقعة الأليمة وما يجري فيها . وكان يريد اطفاء النار ، وحين وصل إليها واطفأ النار ، قالت له : ( يا شيخ هل قرأت القرآن؟ )
فقال لها : ( بلى )
فقالت الصغيرة : ( وهل قرأت { فأما اليتيم فلا تقهر } ؟ )
فقال : ( بلى قرأتها )
فرجته قائلة : ( يا شيخ أنا يتيمة الحسين فارحم يتمي ) ثم أضافت : ( دلني على طريق الغري ، فإن عمتي أخبرتني أن قبر جدنا أمير المؤمنين هناك وأنا أريد أن ألوذ به )
*
فأخبرها بأن طريق النجف بعيد ، وأخذها الى الفرات لكي يروي ظمأها . فلما وقفت على الماء ورأته يجري أنّت أنّة تزلزلت لها الأرضون ، وأخذت تبكي وتقول : ( كيف أشرب الماء وقد قتل ابن رسول الله عطشاناً ) . فأرجعها الى عمتها زينب .
*
[ قــم يــا عــلــي فــمــا هــذا الــقــعــود فــمــا عــهــدي تــغــض عــلــى الأقــذاء أجــفــانــا ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق