الثلاثاء، يناير 25، 2011

{ الأربعين } .. تجديد العهد والولاء


*
[ كـذب الـمـوت فـالـحـسـيـن مـخـلـد
كـلـمـا أخـلـق الـزمـان تـجـدد ]
*
عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال : ( علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الاربعين ، والتختم باليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )
*
بين أزقة الشام وشوارعها ، راح رأس ابن بنت رسول الله يطوف حول الطرقات وهو يرتل القرآن ، فكان آية من آيات الله الزاهرة ومعجزاته الباهرة . ولم يتوقف الأنين والنحيب على سيد الشهداء وأصحابه الصرعى في أرض الطفوف . فما زالت الشمس في حالة الكسوف منذ رفع رأس الحسين على الرمح ، ولا زالت السماء تمطر دماً مذ هوى ريحانة المصطفى مرملاً بالدماء على أرض كربلاء ، وما زالت الدموع تهطل عليه بغزارة منذ يوم العاشر كأنه قد قتل بالأمس ، وما زالت ذكراه تجدد والزاحفون يزحفون لقبره مذ وصل زين العباد وزينب والنساء الى كربلاء في يوم الأربعين .
فبعد كل المآسي التي جرت على آل بيت الحسين في الشام وما تجرعوه من غصص وأرزاء ، قرر اللعين يزيد ارسالهم الى مدينة جدهم قبل أن تقوم ثورة عليه . وعرض على الامام زين العابدين مبلغاً من المال تعويضاً على قتله لسيد الشهداء ، فاعتصر قلب الامام حزناً وكمداً ، فكنوز الدنيا كلها لا تساوي اصبع الحسين المقطوع . وطلب منه أن يعطيه الرؤوس لكي يدفنها مع أجسادها فسمح له بذلك ، وأرسل معهم دليلاً يقودهم في الطريق .
وقامت النساء تودع قبر رقية ، وعمتها زينب تبكي فراقها .
*
سار الركب في الطريق ولما وصلت القافلة الى مفترق الطرق أتى السجاد الى عمته زينب وقال : ( عمة زينب قد وصلنا الى مفترق الطرق ، هذا الطريق يؤدي بنا الى المدينة وهذا الطريق يؤدي بنا الى كربلاء . عمة زينب ماذا تأمرين )

فاشتمت السيدة زينب نسيم كربلاء ورائحة الحسين الزكية ، فاشتاقت نفسها للقاء الأحبة فقالت : ( يابن أخي مر بنا الى كربلاء لكي نجدد العهد بأبيك الحسين )
*
كان عند نهر الفرات جابر بن عبدالله الأنصاري ، وكان صحابياً ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع كلامه ، وفي أواخر أيام حياته كان أعمى البصر . وقد كان معه غلام له اسمه عطية ، فلما اغتسل من ماء الفرات ولبس ملابسه أخذه غلامه الى قبر الحسين لكي يزوره ، فلما وصل الى القبر الشريف ولامسه غشي عليه ، فرش غلامه عليه الماء الى أن أفاق ، ثم صاح باسم الحسين ثلاث مرات ثم قال :
*
( حبيب لا يجيب حبيبه، وأنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أنباجك ، وفرّق بين رأسك وبدنك ، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين ، وابن سيد الوصيّين ، وحليف التقى ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء وابن سيد النقباء ، وابن فاطمة سيدة النساء ، ومالك لا تكون هكذا؟ وقد غذتك كف سيد المرسلين ، وربيت في حجر المتقين ، ورضعت من ثدي الإِيمان ، وفطمت بالإِسلام . فطبت حياً وطبت ميتاً ، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك ، ولا شاكّة في الخيرة لك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا )
*
ثم رفع رأسه وجال ببصره حول القبر وقال : ( السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين ، وأناخت برحله . أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين . والذي بعث محمداً بالحق ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه )
*
فاستغرب غلامه منه قوله وسأله : ( كيف؟ ولم نهبط وادياً ، ولم نعل جبلاً ، ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فُرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم ، وأُرملت أزواجهم )
*
فقال له : ( يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مَنْ أحبَّ قوماً حشر معهم ، ومن أحب عمل قوم أُشْرِكَ في عملهم . والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ، إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه )
*
وما لبثوا أن رأوا سواد قد طلع عليهم من البعد ، فقال جابر الى غلامه : ( انطلق إلى هذا السواد وآتِنا بخبره فإن كانوا من أصحاب عُمر بن سعد فارجع إلينا ، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإن كان زين العابدين عليه السلام فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى )
*
[ قـم لـلـرؤوس ولـلـسـجـاد مـنـتـفـضـاً واسـتـقـبـل الـركـب جـاء الـركـب مـن سـفـر
لـكـربـلاء مـن الـشـامـات قـد وصـلـوا وخـيـمـوا فـي مـكـان الـحـزن والـكـدر ]
*
فذهب الغلام وأسرع راكضاً الى سيده يقول له : ( سيدي ، قم واستقبل حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هذا زين العابدين قد جاء بعمَّاته وأخواته )
وكان الركب قد وصل في العشرين من صفر .
*
فلما دنت القافلة من قبور الشهداء ، ألقت النسوة بأنفسهن من فوق النياق على قبر الحسين ، يقبلن القبر شوقاً ولهفة إليه ، فقد فارقوه أربعين يوماً ، ومن بعده لاقوا الويل والمتاعب ، وهن اللاتي كن معززات مكرمات في حياة مولاهن الحسين . فقام جابر ماشياً حتى وقف أمام الامام السجاد فخاطبه الامام قائلاً : ( أجابر هذا؟ )
فقال جابر : ( بلى يابن رسول الله ، فداك جابر )
فقال الامام بانكسار وحزن : ( يا جابر ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا )
*
جلست زينب عند قبر أخيها مع بناته وزوجاته ونساء بني هاشم يبكين وينتحبن . فسمعت النساء بنت علي وهي تخاطب الامام وتعتذر له ، فخاطبتها زوجة من زوجات الحسين وسألتها عن سبب اعتذارها ، فهي لم تقصر معهم أبداً وحافظت على وصية الحسين لها ، أطعمتهم حين جاعت ، وأروتهم حين ظمأت ، وآثرتهم على نفسها ودافعت عنهم جميعاً . فقالت لها العقيلة أن اعتذارها بسبب موت رقية ، فقد رجعت النساء والأطفال ما عدا صغيرة الحسين التي ظلت في قبرها غريبة عن تلك الديار وبعيدة عن أهلها .
*
ثم قامت النساء ، ذهبت رملة الى قبر ابنها القاسم ، وليلى الى قبر ولدها علي الأكبر ، أما الرباب فقد بقيت عند قبر الحسين ، فرضيعها مدفون على صدر أبيه .
وقامت الحوراء تبحث بين القبور ، تبحث عن قبر معين فرآها السجاد وانقبض قلبه ، علم ما تريد عمته ، فذهب إليها والدموع تملأ عينيه وقال : ( عمة زينب أنا أعلم أي قبر تريدين )
ففاضت روحها الوالهة الى صاحب ذلك القبر وقالت : ( يابن أخي دلني على قبر ابن والدي العباس )
فمضى الامام بعمته زينب ناحية الفرات حيث دفن بطل العلقمي . ألقت زينب بنفسها على قبر حاميها وكفيلها تشكو له مصائبها ورزاياها وما لاقته من بعد ما غاب نور قمر بني هاشم عن دنياها .
*
وأعاد الامام السجاد دفن الرؤوس مع أجسادها . وظلوا في كربلاء لمدة ثلاثة أيام ، بعدها سار الركب الى المدينة المنورة .
*
[ كـنـت فـي الأصـلاب نـوراً مـن أمـيـر الـمـؤمـنـيـن
كـنـت فـي الأرحـام فـي خـيـر نـسـاء الـعـالـمـيـن ]
*
قال الامام الباقر عليه السلام : ( إنَ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء )
*
وقال أيضاُ الامام جعفر الصادق عليه السلام : ( إنّ السماء بكت على الحسين عليه السلام أربعين صباحاً بالدم ، وإنّ الأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد ، وإنّ الشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإنّ الملائكة بكت عليه أربعين صباحاً )
*
ومنذ أن جددت زينب العهد بأخيها الحسين وزارته ، وكما زار جابر الامام الحسين عليه السلام في الأربعين ، أصبحت قلوب الملايين من الناس تهوي الى كربلاء في يوم الاربعين لتجدد ذكرى الطفوف وتجدد العهد بدموعها مع مولاها الحسين . فكما قال الامام العسكري إن زيارة الأربعين علامة من علامات المؤمن . ولزيارة الأربعين أجر عظيم عند الله تعالى وقد حث على زيارة الاربعين وزيارة عاشوراء الائمة الطاهرين عليهم السلام .
*
دخل معاويه بن وهب على الامام الصادق عليه السلام و هو فى مصلاه فجلس حتى قضى صلاته ، فسمعه و هو يناجى ربه و يقول :
*
( يا من خصنا بالكرامة ووعدنا الشفاعة وحملنا الرسالة وجعلنا ورثة الانبياء وختم بنا الأمم السالفة ، وخصنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقى ، وجعل أفئدة من الناس تهوى الينا ، اغفر لى ولاخوانى ، وزوار قبر أبى الحسين بن على صلوات الله عليهم الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة فى برنا ، ورجاء لما عندك فى صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واجابه منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدونا ، أرادوا بذلك رضاك ، فكافئهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار ، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف ، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد ، وكل ضعيف من خلقك أو شديد ، وشر شياطين الانس والجن ، وأعطهم أفضل ما أملوا منك فى غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم و أهاليهم وقراباتهم . اللهم إن أعدائنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص الينا خلافاً منهم على من خالفنا . فارحم تلك الوجوه التى غيرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التى تتقلبت على قبر أبى عبدالله عليه السلام ، وارحم تلك الأعين التى جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التى جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخه التى كانت لنا . اللهم إنى أستودعك تلك الأنفس و تلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش الأكبر )
*
فما زال صلوات الله عليه يدعو بهذا الدعاء و هو ساجد فلما انصرف قال له بن وهب : ( جعلت فداك لو أن هذا الذى سمعته منك كان لمن لا يعرف الله لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً . والله لقد تمنيت إنى كنت زرته ولم أحج )
*
فقال له : ( ما أقربك منه فما الذى يمنعك عن زيارته يا معاوية ولم تدع ذلك؟ )
فقال له : ( جعلت فداك لم أدر أن الأمر يبلغ هذا كله )
فقال عليه السلام : ( يا معاوية من يدعو لزواره فى السماء أكثر ممن يدعو لهم فى الارض . لا تدعه لخوف من أحد ، فمن تركه لخوف رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان بيده . أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن تصافحه الملائكة؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يأتي وليس عليه ذنب فيتبع به؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يصافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ )
*
[ مـنـذ أن كـنـا صـغـاراً رضـعـاً و حـسـيـنٌ كـان درس الأبـويـن * قـد خـلـقـنـا شـيـعـةً مـن طـيـنـةٍ عـجـنـت مـن نـحـر دامـي الـودجـيـن
وسـقـت طـيـنـتـنـا زيـنـبُ فـي مـأتـم الـحـزن بـأزكـى دمـعـتـيـن ]

السبت، يناير 22، 2011

عـنـد أنـيـس الـنـفـــــــوس «ღ»


*
[ الـلـهـم صـل عـلـى عـلـي بـن مـوسـى الـرضـا الـمـرتـضـى ]
*
هو الامام علي بن موسى الملقب بالرضا ، ولد بالمدينة المنورة ، ودفن في أرض طوس في بلاد فارس . فقد أقسمت الدنيا أن تشتت أبناء رسول الله وتقصيهم من ديار جدهم . استدعاه الخليفة العباسي في ذلك الوقت وهو المأمون الى أرض خراسان ، فاستجاب الامام مكرهاً .
*
وهو ثامن الأئمة الطاهرين ، أبوه الامام موسى بن جعفر الكاظم سلامُ الله عليه ، الذي لم يطق أعداؤه صبراً على مدحه . فذاك قاتله هارون العبّاسيّ يشير إليه ويقول لابنه المأمون : ( هذا إمام الناس ، وحجّة الله على خلْقه ، وخليفته على عباده ، موسى بن جعفر إمام حق . والله يا بُنيّ ، إنّه لأحقّ بمقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم منّي ومن الخلق جميعاً ، واللهِ لو نازعتَني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عيناك ، فإنّ المُلك عقيم )
وقال له مرّةً أخرى : ( يا بُنيّ! هذا وارث علم النبيّين ، هذا موسى بن جعفر ، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا )
*
لم يكن أحد يشك في فضل الائمة وعلمهم وأحقيتهم بالخلافة والامامة ، ولكن حب الدنيا وحب السلطة قد تملك قلوبهم فأعمى بصيرتهم .
وهذه أشعة من نور من حياة وارث علم الأنبياء والأوصياء الامام الرضا ، السلطان بعيد المدى .
*
قال رجاء بن أبي الضحّاك : ( بعثني المأمون في أشخاص علي بن موسى الرضا عليهما السلام من المدينة ، فو الله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله تعالى منه ، ولا أكثر ذكراً لله في جميع أوقاته منه ، ولا أشدّ خوفاً لله عزّ وجلّ منه ، وكان يقنت في وتره ، ويقول :
*
( اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، اللّهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولّنا فيمن تولّيت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شرّ ما قضيت ، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك ، إنّه ﻻ يذلّ من واليت ، ولا يعزّ من عاديت ، تباركت ربّنا وتعاليت )
*
وكان عليه السلام يقول في سجوده : ( لك الحمد إن أطعتك ، ولا حجّة لي إن عصيتك ، ولا صنع لي ولا لغيري في إحسانك ، ولا عذر لي إن أسأت ، ما أصابني من حسنة فمنك ، يا كريم اغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها ، من المؤمنين والمؤمنات )
*
ومن أدعيته عليه السلام أنه كان يقول : ( الهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيئة لك ، فجهلوك وقدّروك ، والتقدير على غير ما به شبّهوك ، فأنا بريء يا الهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء ولن يدركوك ، ظاهر ما بهم من نعمتك ، دلّهم عليك لو عرفوك ، وفي خلقك يا الهي مندوحة إن يتناولوك ، بل شبّهوك بخلقك ، فمن ثمّ لم يعرفوك ، واتخذوا بعض آياتك ربّاً فبذلك وصفوك ، فتعاليت يا الهي وتقدّست عمّا به المشبهون نعتوك . يا سامع كل صوت ، ويا سابق كل فوت ، يا محيي العظام وهي رميم ، ومنشئها بعد الموت ، صل على محمّد وآل محمّد ، واجعل لي من كل هم فرجاً ومخرجاً ، وجميع المؤمنين إنّك على كل شيءٍ قدير )
*
ولما قدم الامام الرضا عليه السلام الى خراسان ، ذهب الى الخليفة المأمون ودار بينهما هذا الحوار :
*
قال المأمون للرضا عليه السلام : ( يابن رسول الله ، قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك ، وأراك أحقّ بالخلافة منّي )
*
فقال عليه السلام : ( بالعبودية لله عزّ وجلّ أفتخر ، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزّ وجلّ )
*
فقال له المأمون : ( إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك )
فقال له الرضا : ( إن كانت الخلافة لك وجعلها الله لك ، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك ، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك )
*
فقال له المأمون : ( يابن رسول الله لابدّ لك من قبول هذا الأمر )
فأجاب عليه السلام : ( لست أفعل ذلك طائعاً أبداً)
*
فما زال يجهد به أيّاماً حتّى يئس من قبوله .
فقال له ذات يوم :
( فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك ، فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي )
فقال الرضا عليه السلام : ( والله لقد حدّثني أبي عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً ، تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض ، وأُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد )
*
فبكى المأمون ، ثمّ قال له : ( يابن رسول الله ، ومن الذي يقتلك ، أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ؟ )
فقال الرضا عليه السلام : ( أما إنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت )
*
فقال المأمون : ( يابن رسول الله إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس : إنّك زاهد في الدنيا )
فقال ابن الكاظم : ( والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزّ وجلّ ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ، وإنّي لأعلم ما تريد )
فسأله المأمون : ( وما أُريد؟ )
فقال : ( لي الأمان على الصدق؟ )
قال : ( لك الأمان )
*
فقال ابن رسول الله : ( تريد بذلك أن يقول الناس : إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة )
*
فغضب المأمون ثم قال : ( إنّك تتلقاني أبداً بما أكرهه ، وقد أمنت سطواتي ، فبالله أقسم لأن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك )
*
فقال الرضا : ( قد نهاني الله عزّ وجلّ أن ألقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك ، على أنّي لا أولّي أحداً ، ولا أعزل أحداً ، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً ، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً )
*
فرضي منه بذلك ، وجعله ولي عهده على كراهة منه عليه السلام لذلك .
*
[ الـسـلام عـلـيـك يـا نـور الله فـي ظـلـمـات الأرض ]
*
دخل الريان بن الصلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام ، فقال له : ( يابن رسول الله إنّ الناس يقولون : إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا! )
فقال عليه السلام : ( قد علم الله كراهتي لذلك ، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل ، ويحهم أما علموا أنّ يوسف عليه السلام كان نبيّاً رسولاً ، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له : اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم ، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك ، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه ، فإلى الله المشتكى وهو المستعان ) .
*
ولمّا رفض الإمام الرضا عليه السلام طلب المأمون العبّاسي أن يتقلّد خلافة المسلمين ، طلب منه المأمون أن يتولّى ولاية العهد ، فرفض عليه السلام ذلك ، ولكنّ المأمون أصرّ عليه بالقبول ، فقبلها ابن موسى بشروط، جاء منها في كتابه للمأمون : ( إنّي داخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ، ولا أفتي ولا أقضي ، ولا أولّي ولا أعزل ، ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم ، وتعفيني من ذلك كلّه ) فأجابه المأمون إلى ذلك كلّه .
*
وكان عليه السلام قد شرط ذلك لحكمة منه وأمر يعلمه ، فإنما أراد المأمون بتقليد الامام الرضا ولاية العهد أن ينسب أفعاله المشينة إليه ، لكي يحط من قدره في عيون الناس ، وكان الامام يعلم بما ينوي عليه فشرط هذا الشرط ، وأن يكون ولياً للعهد بالاسم فقط ، على أن لا يشترك في أي أمر من أمور الخلافة لا من بعيد ولا من قريب .
*
وكان مثله مثل كل الائمة ، جواد كريم ، حنون على الأيتام والمساكين . وكان يكرم الضيوف ، ويغدق عليهم بنِعَمِه وإحسانه ، وكان يبادر بنفسه لخدمتهم .
وقد استضافه شخص ، وكان الإمام يحدثه في بعض الليل فتغير السراج ، فبادر الضيف لإصلاحه فوثب الإمام عليه السلام وأصلحه بنفسه ، ثم قال لضيفه : ( إنَّا قومٌ لا نستخدم أضيافنا )
*
وأما عتقه للعبيد وتحريرهم من العبودية ، فقد كان من أحَبِّ الأمور إلى الإمام الرضا عليه السلام ، ويقول الرواة : أنه عليه السلام أعتق ألف مملوك .
*
وأما الإحسان إليهم ، فقد كان الإمام عليه السلام كثير البر والإحسان إلى العبيد ، وقد روى عبد الله بن الصلت عن رجل من أهل بلخ قال : ( كنت مع الإمام الرضا عليه السلام في سفره إلى خُرَاسان ، فدعا يوماً بمائدة فجمع عليها مواليه ، من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك ، لو عزلت لهؤلاء مائدة )
فأنكر عليه ذلك وقال عليه السلام له : ( إن الربَّ تبارك وتعالى واحدٌ ، والأمُّ واحدة ، والجزاء بالأعمال )
*
وكان عالماً في كل أمور الدنيا ، صغيرها وكبيرها ، فهو خازن علم الله وسره في الأرض . فعن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي أنه قال : ( ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا عليه السلام ، ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد ، علماء الأديان ، وفقهاء الشريعة والمتكلمين ، فغلبهم عن آخرهم ، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقر له بالفضل ، وأقر على نفسه بالقصور )
وكثيراً ما كان المأمون يجتمع بالامام الرضا ويسمع حواراته ومناظراته مع أهل الكتاب وأهل الأديان الأخرى ، حتى علماء الدين كانوا اذا اجتمعوا واستعصت عليهم مشكلة يعرضونها على الامام فيعطيهم جواب مسألتهم في الحال .
*
وجاء دعبل الخزاعي يوماً الى الامام الرضا ، وكان شاعراً يحب أهل البيت وينشد فيهم القصائد ، ودخل عليه حين كان بمرو ، فقال له : ( يا ابن رسول الله إني قد قلت فيك قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك )
فقال عليه السلام : ( هاتها )
فأنشده :
*
مَـدارسُ آيـاتٍ خَـلَـتْ عـن تـلاوة ومـنـزل وحـي مُـقـفـِرُ الـعـرصـاتِ
*
فلما بلغ إلى قوله :
*
أَرى فَـيـئَـهُـم فـي غـيـرهـم مـتـقـسِّـمـاً وأيـدِيـهـِمُ مـن فَـيئـِهِـم صُـفُـراتِ
*
بكى الإمام الرضا عليه السلام وقال له : ( صدقتَ يا خزاعي )
*
فلما بلغ إلى قوله :
*
إذا وَتَـروا مَـدُّوا إلـى واتِـرِيِـهُـم أَكُـفّـاً عـن الأوتـار مـنـقـبـضـاتِ
*
جعل الإمام عليه السلام يُقَلِّبُ كفَّيه ويقول : ( أجل والله منقبضات )
*
فلما بلغ إلى قوله :
*
لـقـد خـفـتُ فـي الـدنـيـا وأيـام سَـعـيـهـا وإنِّـي لأرجُـو الأمـنَ بـعـد وفـاتـي
*
قال الإمام عليه السلام : ( آمَنَك الله يوم الفزع الأكبر )
*
فلما انتهى إلى قوله :
*
وَقـبـرٌ بـِـَـغـدادٍ لـنـفـس زكـيـةٍ تَـضَـمَّـنَـهـا الـرحـمَـنُ فـي الـغـرفـاتِ
*
قال له الإمام عليه السلام : ( أفلا أُلحِقُ لك بهذا الموضع بيتين بهما تمامُ قصيدتك؟ )
فقال دِعبل : ( بلى يا ابن رسول الله )
فقال الإمام عليه السلام :
*
وَقَـبـرٌ بِـطُـوسٍ يَـا لَـهَـا مِـن مُـصِـيـبَـةٍ تـوقّـد بِـالأحـشَـاءِ فـي الـحُـرُقَـاتِ
إِلـى الحـشـرِ حَـتَّـى يَـبـعـثُ اللهُ قَـائِـمـاً يُـفـرِّجُ عَـنَّـا الـهَـم وَالـكُـرُبَـاتِ
*
فقال دعبل : ( يا ابن رسول الله ، هذا القبر الذي بطوس قبر من هو ؟!! )
*
فقال عليه السلام : ( قبري ، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى يصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري ، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له )
ثم نهض عليه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة ، وأمره أن لا يبرح من موضعه ، ودخل الدار فأرسل له بيد الخادم صرَّة فيها مائة دينار .
فقال دعبل :
( والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليَّ ) وردَّ الصرَّة .
وسأل ثوباً من ثياب الإمام عليه السلام ليتبرَّك ويتشرَّف به .
*
ولم يكن الامام الرضا هو الوحيد الذي أخبر بفضل من زاره في قبره ، فلقد سبقه بهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عدة أحاديث منها أنه قال : ( ستدفن بضعة مني في خراسان ما زارها مؤمن الا أوجب الله له الجنة وحرم جسده على النار )
*
وقال الرضا أيضاً : ( من زارني على بعد داري أتيته يوم القيامة في ثلاث مواطن حتى أخلصه من أهوالها : اذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً ، وعند الصراط ، وعند الميزان )
*
[ وهـو الامـام عـلـي كـنـيـتـه الـرضـا لـقـب أتـى مـن عـالـم الأكـوان
اذ كـان عـنـه بـالـرسـالـة راضـيـاً وبـذاك نـشـهـد سـورة الانـسـان ]
*
*
فلما صار الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه فدخل عليه غلام المأمون وقال: ( أجب امير المؤمنين ) . فلبس نعله ورداءه ومشى وأبي الصلت من ورائه حتى دخل على المأمون . وكان بين يديه طبق من عنب وأطباق فاكهة فلما بصر بالامام وثب اليه ليعانقه وقبل مابين عينيه ، ثم أجلسه معه وقدم اليه العنب وقال : ( يابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا ) . وطلب منه أن يأكل من العنب فامتنع الإمام عن الأكل وقال : ( أتعفيني منه؟ ) ، ولكن المامون أصر اصراراً شديداً وقال للإمام : ( لا بد لك من ذلك ) ، فتناول عليه السلام من العنقود ثلاث حبات ثم رمى به وقام فقال المأمون : ( إلى أين يا بن العم؟ )
*
فقال عليه السلام : ( إلى حيث وجهتني )
وكان العنب الذي أعطاه المأمون للرضا مسموماً ، وقد أحس الامام بالسم يسري في عروقه . وخرج عليه السلام مغطى الرأس ، فلم يكلمه أبا الصلت حتى دخل داره وأمر بسد أبوابها ، فأغلقت وبقى أبا الصلت واقفاً على باب الدار ينتظر مهموماً حزيناً ، فدخل عليه شاب حسن الوجه أشبه الناس بالرضا فقال له : ( من أين دخلت والباب مغلق؟ )
*
فقال : ( الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق )
فسأله :( من أنت؟ ) . فقال : ( أنا حجة الله عليك يا أبا الصلت ، أنا محمد بن علي ) . ثم دخل على أبيه وأمر أبا الصلت بالدخول معه ، فلما نظر الرضا الى ابنه وثب اليه وعانقه وضمه الى صدره وقبل مابين عينيه ، وأسر اليه بأسرار لم يسمعها أبا الصلت . ولما فارق الحياة من أثر السم ، غسله ابنه وكفنه . ثم جاء المامون واصطنع الحزن والبكاء والافتجاع على الامام .
*
وكان استشهاده في السابع عشر من شهر صفر من سنة ثلاث ومئتين للهجرة . وكتم المأمون استشهاد الرضا يوماً وليله ، ثم أنفذ إلى محمد بن جعفر الصادق عم الإمام ، فلما حضروه نعاه إليهم وبكى متظاهراً ، وأراهم اياه مبيناً أنه صحيح الجسد ، وعلمت الشيعة بذلك فاجتمعوا لتشييع الإمام عليه السلام ، ففزع من وقوع الفتنة ، فخرج محمد بن الصادق بأمر من المأمون ، وفرق الناس ، قائلاً لهم أن أمر الجنازة قد أخر إلى الغد . فلما تفرق الناس ، أخرج المأمون الجنازة الطاهرة ، ثم أن الإمام غسل وكفن وصلى عليه الإمام الجواد عليه السلام في جوف الليل ، ثم أمر المأمون بدفن الإمام بجوار قبر أبيه ، بحيث يكون قبر أبيه أمام قبر الإمام فلم تؤثر المعاول ولم تحفر شيئاً ، فتعجب المأمون في ذلك واستدعى أحد مقربي الإمام وكان يدعى هرثمة الذي كان الإمام عليه السلام يسر له بكثير من المغيبات ، فاقترح هرثمه أن يجعل قبر الإمام أمام قبر هارون ففعلوا ذلك . ودفن عليه السلام في طوس ، تلك البقعة التي تشرفت بضم جسده الطاهر .
*
من أقوال الامام الرضا :
( الصمت باب من أبواب الحكمة ، إنّ الصمت يكسب المحبّة ، إنّه دليل على كل خير )
( صديق كل امرئ عقله ، وعدّوه جهله )
( إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ، ونشاطاً وفتوراً ، فإذا أقبلت تبصّرت وفهمت ، وإذا أدبرت كلّت وملّت ، فخذوها عند إقبالها ونشاطها ، واتركوها عند إدبارها وفتورها )
( أحسن الظن بالله ، فإنّ من حسن ظنّه بالله كان الله عند حسن ظنّه ، ومن رضي بالقليل من الرزق قبل منه اليسير من العمل ، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته ونعم أهله وبصّره الله داء الدنيا ودواءها ، وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام )
*
[ سـلام عـلـى روضـة حـل فـيـهـا امـام يـبـاهـي بـه الـمـلـك والـديـن
مـلـك الـهـدى وقـف الـمـلـوك بـبـابـك والـبـاب أضـحـى قـبـلـة الايـمـان ]

الأربعاء، يناير 12، 2011

أشـعـة مـن حـيـاة ǁ الـمـجـتـبـى ǁ


*
[ بـأبـي شـبـيـه بـالـنـبـي لا شـبـيـه بـعـلـي ]
*
كان أشبه الناس بجده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، جمع الخصائل والاخلاق المحمدية فصار منبعاً لها . فقد قال عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( أشبهت خَلقي وخُلقي ) . وكان من شدة جماله وكماله أنه اذا جلس على باب داره ومر عليه المارة وقفوا مذهولين مدهوشين بذاك الجمال المحمدي حتى يزدحم المكان وينتبه وارث جمال جده إليهم فيقوم ويدخل داره ، فينتشر الناس .
كان أول ابن لعلي والزهراء ، وأول سبط من الأسباط ، سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن بأمر من الله عز وجل .
عاش هو وأخيه الحسين تحت ظل جدهما رسول الله يرتويان من فيض علومه ، فبيتهم هو مهبط الوحي ومزار مختلف الملائكة ، تلقى أفضل التربية على يد جدهما العظيم وأبيهما علي وأمهم الزهراء عليهم السلام . فتخرجا من هذه المدرسة العظيمة وكانا قرآناً يسير على وجه البسيطة ، وسيدا شباب أهل الجنة .
*
وأحبه المصطفى حباً شديداً ، فكان يكثر من تقبيله وحمله حتى على المنبر حينما كان يخطب في الناس . و خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لصلاة العشاء وهو حامل حسناً عليه السلام . فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة ، فوضعه ثم كَبَّر وصلى ، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة فأطالها ، فأتى الحسن وصعد على ظهره وهو ساجد . فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته ، قال الناس : ( يا رسول الله إنَّك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتَها ، حتى ظنَنَّا أنه قد حدث أمر وأنه يُوحَى إليك ) . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( كل ذلك لم يكن ، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعجله حتى ينزل ) .
*
وكان الامام المجتبى ، ربيب بيت الوحي والهدى ، قريباً من الله ، زاهداً عابداً . فقد كان اذا توضأ يصفر وجهه وترتعد أطرافه ، فإذا سئل عن السبب أجاب : ( حق على كل من وقف بين يدي رب العرش ان يصفر لونه وترتعد مفاصله )
*
وكان عليه السلام اذا بلغ باب المسجد يرفع رأسه ويقول : ( الهي ضيفك ببابك ، يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم )
وعن الامام الصادق عليه السلام أنه قال : ( ان الحسن بن علي كان اعبد الناس في زمانه وازهدهم وافضلهم )
*
وكان الامام من علمه وفضله الزاخر ، ومعرفته وكمال عقله ، أن الناس يقصدون إليه يسألونه في مسائل الدنيا والآخرة ، وكانوا لا يرجعون من عنده خائبين ، فكان يغدق عليهم بالشرح والاجابه حتى يكتفوا .
فقد سأله الحسن البصري عن القضاء والقدر فأجاب سلام الله عليه :
*
( أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، أن الله يعلمه فقد كفر ، ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر ، إن الله لم يطع مكرهاً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يهمل العباد سدىً من المملكة ، بل هو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما عليه أقدرهم ، بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً ، فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً ، وان انتهوا الى معصية فشاء أن يمن عليهم ، بأن يحول بينهم وبينها فعل ، وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً ولا ألزموها كرهاً ، بل منّ عليهم بأن بصرهم وعرفهم ، وحذرهم ، وأمرهم ونهاهم ، لا جبراً لهم على ما أمرهم به ، فيكونوا كالملائكة ، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه ، ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .. )
*
[ الـسـلام عـلـيـك أيـهـا الـسـيـد الـزكـي
الـسـلام عـلـيـك أيـهـا الـبـر الـتـقـي ]
*
وقد قيل له : ( ما الزهد؟ )
قال : ( الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا )
قيل : ( فما الحلم؟ )
قال : ( كظم الغيظ وملك النفس )
قيل : ( ما السداد؟ )
قال : ( دفع المنكر بالمعروف )
قيل : ( فما الشرف؟ )
قال : ( اصطناع العشيرة وحمل الجريرة )
قيل : ( فما النجدة؟ )
قال : ( الذب عن الجار ، والصبر في المواطن ، والاقدام عند الكريهة )
قيل : ( فما المجد؟ )
قال : ( أن تعطي في الغرم ، وأن تعفو عن الجرم )
قيل : ( فما المروءة؟ )
قال : ( حفظ الدين ، واعزاز النفس ، ولين الكنف ، وتعهد الصنيعة ، وأداء الحقوق ، والتحبب الى الناس .. )
*
وقد سئل عليه السلام : ( كم بين السماء والأرض؟ )
فأجاب : ( دعوة المظلوم )
*
وفي الجانب الآخر من أخلاق الامام عليه السلام ، تواضعه ويده الكريمة السخية ، فكان لا يرد سائلاً ولا يخيب محتاجاً . ولقبه الناس بكريم أهل البيت لشده جوده وعطائه .
فعن تواضعه ، أنه مر يوماً على جماعة من الفقراء وكانوا يأكلون كسيرات من الخبز ، فدعوه لمشاركتهم فيها ، فأجاب دعوتهم قائلاً : ( إن الله لا يحب المتكبرين )
ثم أغدق عليهم من عطائه وكرمه .
وعن حسن معاشرته للناس أنه كان جالساً في مكان وحين عزم على الانصراف دخل فقير الى المكان ، فحياه سبط الرسول ولاطفه ثم قال : ( إنك جلست على حين قيام منا ، أفتأذن لي بالانصراف؟ )
فأجاب : ( نعم يابن رسول الله )
*
[ الـسـلام عـلـيـك أيـهـا الـبـاهـر الـخـفـي
الـسـلام عـلـيـك أيـهـا الـطـاهـر الـزكـي ]
*
وكان الامام يحسن لمن أساء له ، ولا يضمر له في قلبه أي حقد أو ضغينة ، فقد مر عليه ذات يوم رجل شامي ، وكان ممن غذاهم معاوية بالحقد على آل الرسول ، فلما رأى الرجل الامام جعل يلعنه ، فأقبل اليه الامام الحسن وقال :
( يا شيخ أظنك غريباً ولعلك شبهت! فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفاً الى وقت ارتحالك كان أعود عليك ، لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً )
*
فاستضافه الامام في بيته ، فلما أراد مغادرته ، قال له مودعاً ودموعه تفيض من عينيه : ( أشهد أنك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يضع رسالته ، كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي ، والآن أنت وأبوك أحب خلق الله إلي )
*
روي أنّه جاء أعرابي يوماً سائلاً الإمام عليه السلام ، فقال عليه السلام : ( أعطُوه ما في الخَزَانة ) ، فوجِد فيها عشرون ألف دينار ، فدفعها عليه السلام إلى الأعرابي ، فقال الأعرابي : ( يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مِدحَتي ) .
فأنشأ الإمام عليه السلام يقول :
*
نَحنُ أُناسٌ نَوالُنا خضـل يرتع فيه الرجـاء والأمــل
تَجودُ قبل السؤال أنفسـنا خوفاً على ماء وجه مَن يَسَل
لو علم البحرُ فَضلَ نائلنا لغاصَ مِن بعد فيضِـهِ خَجَلُ
*
وعند ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى ، كان الحسن يبلغ من العمر ستة سنين ، وبعد رحيل جده رحلت أمه عن الدنيا بعد 75 يوماً من وفاة أبيها ، وكان وقع مصائبهما عليه شديداً وفراقهما أصعب . فقدان جده وفقدان أمه في وقت قصير . وهكذا فقد الحسن أنوار حياته وبهجتها ، وبقي له أبوه أمير المؤمنين . رأى ظلم الناس له وجورهم عليه ، فأصبح لأبيه ذراعه اليمنى وتعلم منه الشجاعة والفروسية ، فأضحى بطلاً فارساً في الحروب والمعارك مع أخيه الحسين عليهما السلام .
وتسلم الامامة بعد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام . وفيه مدة امامته طالبه معاوية بن أبي سفيان بالحكم فقبل بها الامام ، لا لشي سوى لحفظ دماء المسلمين ، ولأن الجاه والسلطان كانا آخر همه عليه السلام ، فجل ما كان يريده هو نشر دين جده المصطفى ، والحفاظ على دماء المسلمين ووحدتهم وتماسكم .
وكانت مدة اقامته عليه السلام في الكوفة ، وبعد توثيق الوثيقة اشتاق سبط الرسول الى مدينة جده حيث مكان ولادتهم ومدفن جده وأمه ، فارتحل اليها هو وأهل بيته . وضج أهل الكوفة بالبكاء والنحيب لفراق امامهم ، فقد خلت الكوفة أولاً من أمير المؤمنين ، والآن تخلو من نور الحسن والحسين عليهما السلام .
*
[ يـا أنـت يـا كـبـداً تـفـرد بـالـسـمـوم
يـا أنـت يـا كـونـاً تـجـرحـه الـهـمـوم ]
*
طلب معاوية من ملك الروم سماً فتاكاً ، فلما أرسله أرسل معه كتاباً كتب فيه أن لا يستعمل هذا السم بسوء ، لأنه من شدته أنه يذيب حتى الصخر اذا وضع عليه هذا السم . وكان معاوية يخطط أن يدس هذا السم الى الامام الحسن عليه السلام عن طريق زوجته الخبيثة جعدة بنت الأشعث .
*
وفي يوم من الأيام كان الحسن عليه السلام صائماً وأراد أن يفطر فأتت زوجته اللعينة له بالطعام وهي تبتسم ، وقد علم سبط رسول الله ما قد نوت عليه زوجته ، وما أن أكل حتى أحس بالسم يفتت كبده الشريف فنادى بغلام له لينادي بأهل بيته ، فأتى إليه الحسين عليه السلام مسرعاً ووضع رأسه على حجره وهو يبكي لمنظر أخيه فقال : ( يا أخي ، إني سقيت السم ثلاث مرات ولم أسق مثل هذه المرة ، وإني لأضع كبدي ) فقال الحسين : ( من سقاك يا أخي؟ )
فقال : ( ما سؤالك عن هذا تريد أن تقتلهم؟ اكلهم إلى الله عز وجل )
وكان المجتبى قد طلب طشتاً ليفظ فيه قطع كبده الشريف .
*
نظر الحسن الى أخيه الحسين فرآه يبكي فسأله الامام : ( ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ ) قال : ( أبكي لما يصنع بك )

فقال له الحسن عليه السلام : ( إن الذي يؤتى إليّ سمٌ يدسّ إليّ فأُقتل به ، و لكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أٌمة جدّنا محمد صلى الله عليه و آله و ينتحلون دين الإسلام فيتجمعون على قتلك و سفك دمك و انتهاك حرمتك و سبي ذراريك و نسائك و انتهاب ثقلك ، فعندما تحلُّ ببني أُمية اللعنة و تمطر السماء رماداً و دما و يبكي عليك كلُّ شيء حتى الوحوش في الفلوات و الحيتان في البحار )
*
[ صـوت الـمـنـادي نـاعـيـاً أدمـى قـلـوب الـنـاس
هـذا فـراق الـمـجـتـبـى لـحـسـيـن والـعـبـاس ]
*
كانت شهادته عليه السلام في السابع من صفر لعام 50 للهجرة ، وكانت مدة امامته 10 سنين .
وقبل أن يلفظ المجتبى أنفاسه الأخيرة ، أوصى الامام الحسين بوصايا حيث قال : ( فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك : أن تصفح عن سيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً . وأن تدفنّي مع رسول الله فإنّي أحقّ به ، وببيته ممّن أدخل بيته بغير إذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده ، قال الله فيما أنزله على نبيّه في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لكم } ، فو الله ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه ، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرّف فيما ورثناه من بعده . فإن أبت عليك المرأة ، فأنشدك بالله وبالقرابة التي قرّب الله عزّ وجلّ منك ، والرحم الماسّة من رسول الله : أن لا تهريق فيّ محجمةٍ من دم ، حتّى نلقى رسول الله ، فنختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس إلينا من بعده )
*
ولأن الحسن عليه السلام يعلم أن القوم سيمنعوا بني هاشم من أن يدفنوه الى جنب جده ، أوصى أخاه أن يوجه جنازته الى رسول الله حتى يجدد به عهداً ، ثم يمر به من عند أمه الزهراء ، ثم يرده حتى يدفنه في البقيع الغرقد .
ثم جمع أهل بيته وعياله وأخبرهم أن الامامة من بعده تكون الى أخيه الحسين ، وهو الخليفة وحجة الله على الخلق ، وأوصاهم أن يسمعوا له ويطيعوه وأن يبلغ الحاضر منهم الغائب . وأوصى الحسين أن يتولى تغسيله وتكفينه ودفنه بعد موته ، وأن يحفظ نسائه وأولاده من بعد عينه ، ثم نعاه قائلاً :
*
( يا أخاه لا تحزن عليّ ، فإن مصابك أعظم من مصيبتي ورزءك أعظم من رزئي ، فإنّك تقتل ، يا أبا عبد الله ، بشطّ الفرات بأرض كربلا عطشاناً لهيفاً وحيداً فريداً مذبوحاً يعلو صدرك أشقى الأمّة ، ويحمحم فرسك ويقول في تحمحمه : الظليمة الظليمة من أمّةٍ قتلت ابن بنت نبيّها . وتسبى حريمك وييتّم أطفالك ، ويسيّرون حريمك على الأقتاب بغير وطاءٍ ولا فراش ، ويحمل رأسك يا أخي على رأس القنا ، بعد أن تقتل ويقتل أنصارك ، فيا ليتني كنت عندك أذبّ عنك كما يذبّ عنك أنصارك بقتل الأعداء ، ولكنّ هذا الأمر يكون وأنت وحيد لا ناصر لك منّا ، ولكن لكلّ أجلٍ كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب ، فعليك يا أخي بالصبر على البلاء حتّى تلحق بنا )
*
ونفذ الامام الحسين عليه السلام وصية أخيه الحسن ، وتولى مهمة تغسيل جسده الطاهر وتكفينه ، وسط بكاء ونياح أهل البيت ، وأنين زينب لفراق أخيها الأكبر . ثم حملوا الجنازة متوجهين بها الى حيث مدفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
*
[ حـذاري تـنـزعـي سـهـمـاً بـجـثـمـانـي
لـئـلا تـغـرق الـدنـيـا بـطـوفـان ]
*
كان يوم فقد المجتبى يوم عصيب على محبيه ، اتشحت المدينة بالسواد والدموع ، والكل يصفق يداً بيد أسفاً على رحيل كريم أهل البيت عليه السلام . ودنى بنو هاشم بالجنازة من قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرجوا عليه القوم ومنعوا الجنازة من الدخول ومن أن يدفن جسد الحسن بجنب جده ، طردوا وارث جده لا جدهم ، ملكوا مكانه واستحلوا ارثه ومنعوا أصحاب الحق من حقهم . وشكّل القوم سداً منيعاً للحيلولة دونهم ودون قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما رأى بنو هاشم منهم ذلك ، وضعوا أيديهم على قوائم سيوفهم وجردوها من غمدها ، فمنعهم أبا عبدالله من ذلك ، وذكر لهم وصية أخيه الحسن بأن لا يراق في تشييعه ملء محجمة دم ، فمالوا بالجنازة نحو البقيع ، ولم يكتف القوم الظالمين بهذا ، ورموا نعش الامام الطاهر المظلوم بسبعين سهماً حتى أصابت جسده الشريف ، وبنو هاشم صابرين يحتسبون الأجر عند الله تعالى ، منتظرين اليوم الذي يحكم الله بينهم وبين ظالميهم بالعدل .
*
وازدحم الناس بالبقيع لدفن الامام ، حتى لم يبقى مجالاً يتسع لأحد ، والكل باكٍ حزين من رجل وامرأة ، وقبل أن يوارى جسد الامام الثرى دنى منه أخوه محمد بن الحنفية وقال :
*
( رحمك الله يا أبا محمد ، فوالله لئن عزّت حياتك لقد هدّت وفاتك ، ونعم الرّوح ، روح عمّر به بدنك ونعم البدن ، بدن ضمه كفنك ، لم لا يكون كذلك وأنت سليل الهدى ، وحلف أهل التقوى ، ورابع أصحاب الكساء ، غذتك كفّ الحق ، وربيت في حجر الإسلام ، وأرضعتك ثديا الإيمان ، فطب حيّاً وميتاً ، فعليك السلام ورحمة الله وإن كانت أنفسنا غير قالية لحياتك ولا شاكّة في الخيار لك )
*
وحينما وضع الحسين جسد أخيه الحسن في لحده أنشد قائلاً :
*
أأدهن رأسي أم تطيب محـاسني ورأسك معفـــــــور وأنت سليب
بكائي يطــــول والدموع غـزيرة وأنت بعـــــيد والمــــزار قريب
غريب وأطـراف البيوت تحوطه ألا كلّ مـــن تحت التراب غريب
فليس حريــــب من أصيب بماله ولكـــــنّ من وارى أخاه حريب
*
وغدا وجه الكمال تريب ، والأسى حول قبره يحوم ، غالوا تراب قبره وساووه بالأرض فاختفت معالمه ، ومنعوا محبوه من زيارته . فالأنفس تلتهب حسرة وحزناً وكمداً على مصيبة المقهور المظلوم .
*
[ قـبـرك يـا مـجـتـبـى يُـكـسـى سـواد الـعـبـا
والـنـجـم حـزنـاً خـبـا يـا مـن خـبـا مـثـوى ]

السبت، يناير 08، 2011

φ ذِي طِـفـلــةٌ فـي الـشَّــام φ


*
[ تـبـكـيـك عـيـنـي لا لأجـل مـثـوبـة ،، لـكـنـمـا عـيـنـي لأجـلـك بـاكـيـة ]
*
لم يتحمل ابن زياد بقاء الامام زين العابدين ونسائه في الكوفة ، خاف من أن يقلبوا قلوب أهل الكوفة عليه ، فيثورون في وجهه . فأرسلهم الى الطاغية يزيد بن معاوية . ومشت القافلة من جديد من الكوفة الي الشام .
*
أتى رجل شامي معه ابنته الصغيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وطلب منه أن يدعو الله لتتعافى ابنته ، فلقد عجز الأطباء عن مداواتها . فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابنه الحسين عليه السلام وقال له أن يدعو لهذه الطفلة . فوضع الحسين يده على رأسها ودعى الله أن يشفيها ويلبسها الصحة والعافية . فأحست الطفلة من فورها بالشفاء . ووقع الأب على رجلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلهما ويشكر الحسين . وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هدية لكي يقدمها للحسين ، فسأله الرسول عن مكان اقامته ، فقال له أنه من سكان حلب . فترقرقت الدموع في عيني الرسول الأعظم وقال : ( سوف يمر عليكم موكب سبايا نساء وأطفال جياع فقدموا لهم الطعام ) .
*
ومنذ ذاك اليوم وهذا الرجل يعد الطعام في كل ليلة وينتظر وصول هؤلاء الأطفال والسبايا . ومرت السنين تلو السنين ، وعندما وصلت قافلة أسارى آل هاشم الى تلك البلدة في طريقها الى الشام . أتت هذه الطفلة وكانت قد أصبحت امرأة ومعها جواري يحملن الطعام على رؤوسهن حتى وصلوا الى الأطفال والنساء فوضعوا الطعام أمامهم . فصاحت زينب : ( ارموا الطعام من يدكم ، إن الصدقة حرام علينا أهل البيت ) . فأتت المرأة وقصت قصتها على السيدة زينب عليها السلام ، حتى قالت لها : ( أُخيّه مات أبي وماتت أمي وأنا أنظر على قارعة الطريق ، ولم أرى مرور سبي نساء وأطفال إلاّ هؤلاءالأطفال )
فبكت السيدة زينب وانتحبت ، وتعجبت هذه المرأة من بكاء السيدة زينب فسألتها عن السبب . فقالت لها : ( هل تعرفين وجه الحسين اذا رأيته الآن؟ )
فأجابت بالايجاب ، فأخذتها السيدة زينب الى حيث رأس الحسين ، فلما نظرت إليه المرأة وعرفته صاحت : ( وا حسيناه وا مظلوماه )
*
[ مـذ رأيـت الـرأس مـرفـوع عـلـى الـرمـح مـشـالا
شـفّـنـي الـحـزن وفـاض الـدمـع مـن عـيـنـي وسـالا ]
*
لما أدخلت السبايا الى الشام ، جاء شيخ فدنا من نساء الحسين عليه السلام وعياله وقال :( الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم )
فقال له زين العابدين عليه السلام : ( يا شيخ هل قرأت القرآن؟ )
قال : ( نعم )
قال : ( فهل قرأت هذه الآية : { قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى }؟ )
*
قال : ( قد قرأت ذلك )
فقال له السجاد : ( فهل قرأت { وآت ذا القربى حقه }؟ )
فقال :( بلى )
فقال : ( فهل قرأت الآية : { واعلموا أن ما غنمت من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى }؟ )
فقال : ( بلى )
وقال : ( وهل قرأت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }؟ )
قال : ( بلى )
*
فقال عليه السلام : ( فنحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ )
فدهش الشيخ وقال : ( بالله عليكم إنكم هم؟ )
فقال عليه السلام : ( وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم )
*
فبكى الشيخ ورمى عمامته ثم رفع رأسه الى السماء وقال : ( اللهم اني ابرأ اليك من عدو آل محمد )
وسأل الله أن يتوب عليه بما صنع .
*
وخرج سهل بن سعد وكان صحابياً قد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع حديثه ، فلما توسط الناس رأى أن الشام قد تزينت بزينة ، وأن الدفوف والطبول تطرق فسأل الناس : ( يا قوم هل لكم بالشام عيد لا نعرفه؟ )
فقالوا : ( يا شيخ نراك غريبا ) فقال : ( أنا سهل بن سعد قد رأيت محمداً )
قالوا : ( يا سهل ما أعجب السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها ) فقال : ( ولم ذاك ؟ )
قالوا : ( هذا رأس الحسين عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهدى من أرض العراق )
فسألهم عن أي باب يدخل فقالوا من باب الساعات فاتجه الى ذاك الباب ورأى فارساً بيده رمح عليه رأس أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن ورائه نسوة وأطفال . فدنى من احداهن وسألها : ( يا جارية من أنت؟ )
*
فقالت : ( أنا سكينة بنت الحسين )
فقلت لها : ( ألك حاجة إلي فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمع حديثه )
قالت : ( يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر اليه ولا ينظروا الى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
فدنى سهل من صاحب الرأس وقال : ( هل لك ان تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ )
قال : ( ما هي؟ )
فقال : ( تقدم الرأس أمام الحرم ) . ففعل ذلك
*
[ لـيـت الـقـيـود لـهـا لـسـان مـحـدث تـروي لنا مـا قـد خـفـى مـن أنة الـسـجـاد ]
*
ولما ادخلت النسوة قصر يزيد مع علي بن الحسين وهم مقرونون في الحبال وزين العابدين مغلول ووقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له عليه السلام : ( ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رآنا على هذه الصفة؟ ) . فأمر يزيد بالحبال فقطعت وأمر بفك الغل عن الامام عليه السلام . ثم وضع رأس الحسين بطبق ووضع أمام يزيد ، وجعل ينكث ثنايا الحسين و، ليت شلت يمينه ، هو يضحك فرحاً وسروراً . وأجهشت السيدة زينب بالبكاء ، فبالأمس رأت طشت الحسن أخيها فيه أعضاؤه المفتتة جراء السم ، واليوم ترى طشتاً فيه رأس الحسين أخيها يهدى الى طاغية الشام . فبكت وأنت أنين المفجوعه الوالهة ، فبكى كل الحضور .
*
وأنشأ يزيد اللعين يقول :
*
ليـــت أشيـــــاخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلــــوا واستهــــلوا فــرحــاً *** ثم قــــالوا يــــا يـزيد لا تشــل
قد قتــــلنا القــرم من ساداتهم *** وعــــدلناه بــــبدر فـــاعتـــدل
لعــــبت هــــاشم بالمـــلك فــلا *** خــــبر جــــاء ولا وحي نــزل
لســــت من خـندف ان لم انتقم *** من بنــــي احمد ما كان فعـل
*
فقامت بنت المرتضى ، ودوى صدى صوتها يهز قصر اللعين ، وتزلزل من حروف خطبتها حيث قالت مخاطبة يزيد :
*
( الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه حيث يقول : { ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن } .
*
أظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى ، أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عند ه، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك فرحاً ، وتنفض مذوريك مرحاً ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : { ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين }
*
أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي ، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن ، والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم : لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل . منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأقة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك ، زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت . اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا .
فوالله ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلم شعثهم ، يأخذ بحقهم { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً ، وأضعف جندا .
ولئن جرت علي الدواهي يا يزيد مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى . ألا فالعجب كل العجب ، لقتل حزب الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفراعل ، ولئن اتخذتنا مغنما ، لنجدنا وشيكا مغرماً ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، والى الله المشتكى وعليه المعول .
فكد كيدك، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة ، انه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل )
*
وكان لخطبها الأثر البليغ على الناس ، فتجدد العزاء في الشام واتشحت بالسواد والبكاء .
*
وأمر يزيد لعنة الله بمنبر وخطيب ليخبر الناس بمساوئ الحسين وعلي‏عليهم السلام ، فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله و أثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين و أطنب في تقريظ معاوية و يزيد لعنهما الله ، فذكرهما بكل ‏جميل . فصاح به علي بن الحسين : ( ويلك أيها الخاطب اشتريت‏ مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار )
ثم قال عليه السلام : ( يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن رضا لله و لهؤلاء الجلساء أجر و ثواب )
فأبى يزيد عليه ‏ذلك ، فقال الناس : ( يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر ، وما قدر ما يحسن هذا الفتى؟ )
فقال : ( إنه من أهل ‏بيت قد زقوا العلم زقاً . صغيرهم جمرة لا تداس وكبيرهم علم لا يقاس! )
*
فأصر الناس عليه حتى سمح للامام ، فصعد الامام المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب . ثم قال :
*
( أيها الناس ، أُعطينا ستاً وفُضِّلنا بسبع ، أُعطينا : العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين . وفُضِّلنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار ، ومنّا الصدِّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمّة ، ومنا مهديّها .
*
أيها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي . أنا ابنُ مكّةَ ومِنى ، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا ، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا ، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى ، أنا ابن خيرِ مَن طاف وسعى ، أنا ابنُ خير مَن حجّ ولبّى ، أنا ابنُ مَن حُمِل على البُراق في الهواء ، أنا ابن مَن أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابنُ مَن بلَغَ به جبرئيلُ إلى سِدرة المنتهى ، أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى ، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى ، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى ، أنا ابن محمّدٍ المصطفى .
*
أنا ابنُ عليٍّ المرتضى ، أنا ابن مَن ضربَ خراطيمَ الخَلق حتى قالوا : لا إله إلاّ الله ، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين ، وطعن برمحين ، وهاجرَ الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتلَ ببدرٍ وحُنَين ، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين . أنا ابن صالحِ المؤمنين ، ووارثِ النبيّين ، وقامعِ الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزينِ العابدين ، وتاجِ البكّائين ، وأصبرِ الصابرين ، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ رسول ربِّ العالمين .
أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهدِ أعداءه الناصبين ، وأفخرِ مَن مشى مِن قريشٍ أجمعين ، وأوّلِ مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأوّلِ السابقين ، وقاصمِ المعتدين ، ومُبيدِ المشركين ، وسهمٍ مِن مَرامي الله على المنافقين ، ولسانِ حكمةِ العابدين ، وناصرِ دِين الله ، ووليِّ أمرالله ، وبستانِ حكمة الله ، وعيبة علمه .
سَمحٌ سخيٌّ بهيّ ، بُهلولٌ زكيّ أبطحيّ ، رضيٌّ مِقدامٌ همام ، صابرٌ صوّام ، مهذَّبٌ قَوّام ، قاطعُ الأصلاب ، ومُفرِّق الأحزاب ، أربطُهم عِناناً ، وأثبتُهم جَناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسدٌ باسل ، يَطحنُهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، وقَرُبت الأعنّة ، طَحْنَ الرَّحى ، ويذروهم فيها ذَرْوَ الريح الهشيم . ليثُ الحجاز، مكّيّ مدنيّ ، خَيفيٌّ عَقَبيّ ، بَدريٌّ أُحُديّ ، شَجَريٌّ مُهاجريّ ، مِن العرب سيّدُها ، ومِن الوغى ليثُها ، وارثُ المشعرَين ، وأبو السبطَين ، الحسن والحسين ، ذاك جَدّي عليُّ بن أبي طالب )
*
ثمّ قال:
( أنا ابن فاطمةَ الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، انا ابن بضعة الرسول ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى ، أنا ابن مَن حرمه من العراق إلى الشام تُسبى . أيّها الناس إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدى والعدل والتُقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا )
*
فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشِيَ يزيدُ لعنه الله أن ينقلب الأمر عليه ، فأمر المؤذّنَ فقطع عليه الكلام . فلمّا قال المؤذّن : ( اللهُ أكبر ، الله أكبر )
قال عليّ عليه السلام : ( الله أكبر كبيراً ، ولاشيءَ أكبر من الله )
فلمّا قال : ( أشهد أن لا إله إلاّ الله )
*
قال عليه السلام : ( شَهِد بها شَعري وبَشَري ، ولحمي ودمي )
فلمّا قال المؤذّن : ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله )
*
التفتَ مِن فوق المنبر إلى يزيد فقال : ( يا يزيد ، محمدٌ هذا جَدّي أم جَدُّك؟ فإن زعمتَ أنّه جَدُّك فقد كذبتَ وكفرت ، وإن قلت أنّه جَدّي فلِمَ قتلتَ عترته ؟! )
*
[ حـكـى عـن زيـنـب الـكـبـرى بـأم الـحـزن سـمّـاهـا
وأيـتـام بـلا مـأوى يـمـيـن الـظـلـم أدمـاهـا ]
*
ثم أمر يزيد بنساء الحسين وحبسهن مع الامام في خربة من خرائب الشام ، لا يقيهم من حر ولا برد . وكانت حرارة الشمس تصهرهم ، حتى تقشرت وجوههم وكانوا طول مدة اقامتهم ينوحون على الحسين عليه السلام .
أتى المنهال الى السجاد حينما كان خارجاً من الخربة فقال له : ( كيف أمسيت يابن رسول الله؟ )
فقال عليه السلام : ( أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته مشردين ، فإنا لله وإنا اليه راجعون )
*
كانت للحسين بنت صغيرة تسمى رقية وكان عمرها في تلك الواقعة ثلاث سنوات . وحين ودعت أباها الحسين سألته قائلة : ( أبه متى اللقاء؟ ) فقال لها أبوها : ( في الشام )
وكانت الطفلة طوال الطريفق من كربلاء الى الكوفة ومنها الى الشام تسأل عمتها زينب عن موعد وصولهم الى الشام . وفي مرة من المرات بعدما سألتها ، قالت لها كعبة الرزايا : ( بنية رقية مالك تسألين عن الشام؟ )
فقالت لها اليتيمة : ( عمة زينب عندما ودعت أبي الحسين سألته متى اللقاء فقال لي في الشام )
*
فتفطر قلب العقيلة عند سماعها لاسم الحسين . وفي خربة الشام ، كانت رقية نائمة فانتبهت من نومها فزعة وهي تبكي وتقول : ( ائتوني بوالدي وقرة عيني )
وكلما أراد اهل البيت اسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً ، ولبكائها زاد وكثر وطال حزن أهل البيت فأخذوا في البكاء الشديد وقام الصياح ، فسمع اللعين يزيد صيحتهم وبكائهم ، فقال : ( ما الخبر؟ )
قيل له : ( أن بنت الحسين الصغيره الموجوده مع السبايا في الخربه ، رأت أباها في نومه ، فاستيقظت وهي تطلبه وتبكي وتصيح )
فقال: ( ارفعوا اليها راس أبيها وضعوه بين يديها تتسلى به! )
*
فأتوا بالرأس الشريف في طبق مغطى بمنديل ووضعوه بين يديها فقالت : ( ماهذا ؟ أنا طلبت أبي ولم أطلب الطعام )
فقالوا : ( هنا ابوكِ )
فرفعت المنديل ورأت رأس أبيها فرفعته وضمته الى صدرها وقالت : ( يا أبتاه من الذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني ، يا أبتاه من للعيون الباكيات ، يا أبتاه من للضائعات الغريبات ، يا أبتاه من للشعور المنشورات ، يا أبتاه من بعدك واخيبتاه من بعدك وا غربتاه ، ليتني كنت لك الفداء ، يا أبتاه ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، يا أبتاه ليتني توسدت التراب ولم ارَ شيبك مخضباً بالدماء )
*
ثم وضعت فمها على فم ابيها الشهيد المظلوم وبكت حتى غشي عليها .
*
[ لـو كـنـت تـطـالـع عـيـنـي والـطـفـلـة فـوق جـبـيـنـي
مـاتـت بـيـن الـخـديـن دمـعـاً فـي عـيـن الله ]
*
فقال الامام زين العابدين عليه السلام : ( عمة زينب ارفعي اليتيمه من على رأس والدي فلقد فارقت روحها الدنيا )
فارتفع اصوات اهل البيت بالبكاء وتجدد العزاء .
وبينما كانت الغاسلة تغسل بدن رقية الطاهر ، توقفت قليلاً ونادت : ( من هي راعية الأسرى؟ )
فأتت السيدة زينب وسألتها عما تريد ، فقالت المرأة : ( إني أرى أن بدن هذه الطفلة الصغيرة مسوداً ، فأي داء كانت مبتلية به؟ )
فبكت زينب وقالت : ( إنها لم تكن مبتلاة ولكن اسود متنها من أثر الضرب بالسياط )
*
ودفنت السيدة رقية في الشام .
*
الــســلام عــلــيــكِ يــا ابــنــة الــحــســيــن الــشــهــيــد الــذبــيــح الــعــطــشــان الــمــرمّــل بــالــدمــاء ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــهــضــومــة ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــظــلــومــة ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــحــزونــة .