الأحد، ديسمبر 12، 2010

ೋ وجـهٌ قـمـرٌ أزهـر بـالـتـرب غَـدَا مُـغـبَـر ೋ


*

[ فـي لـيـلـة طـاب الـحـديـث الـحـلـو مـن أخـت وأنـت عـلـى الـجـواد ازاءهـا ]
*
في ليلة التاسع من المحرم ، وحين دنت ساعة الوداع قبل بزوغ الفجر ، كانت خيمة الحسين وخيام أنصاره كخلية النحل ، تضج بالعبادة والدعاء ، مابين راكع وساجد وتالٍ للقرآن الكريم ، وهناك واحد انتبذ منهم ، تطوع ليحرس خيام آل الرسول الكرام ، يطوف حولها كالسراج المنير ولسانه يلهج بذكر الله تعالى . أتى سواد يمشي بين الخيام قاصداً ذاك الفارس الراكب على فرسه ، أحس الفارس بصوت فنادى بصوت مهيب : ( من هناك ؟ ) من هذا الدخيل الذي يجرؤ على اقتحام مكان وأبو الفضل يحرسه ! فأجابه صوت خنقته عبرة الوداع : ( أخي أبا الفضل أنا أختك زينب )
ذهبت صوب ذاك الفارس المطهم في سواد الليل ، تريد اجراء حديث مع القمر ، روت له قصة مصاهرة الكرام :
*
[ قـد أنـجـبـتـك مـن الـفـحـولـة حـرة لـم يـعـرف الـتـاريـخ بـعـد ابـاءهـا ]
*

أتى ولي الله علي بن أبي طالب الى أخيه عقيل ، وكان عقيلاً عالماً بأنساب العرب وأخبارهم ، فطلب منه أن يجد له امرأة ولدتها الفحولة من العرب لكي يتزوجها لتنجب له غلاماً فارساً ينصر ولده الحسين في كربلاء ، فأجابه : ( أين أنت من فاطمة الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس ) .
وكانت فاطمة بنت حزام الكلابية ، امرأة صالحة ذات حسب ونسب ، كانت وأهل بيتها موالين للامام علي بن ابي طالب عليه السلام . وقد رأت في عالم الرؤيا ذات يوم أنها ترى قمراً في السماء والى جانبه ثلاثة نجوم ، فسقطوا جميعاً في حجرها ، وأخبرت أمها بهذه الرؤيا ، فبشرتها بأنها سوف تتزوج من رجل له مكانة رفيعة وتنجب منه أولاداً تكون لهم مكانة أيضاً . ومن أرفع مكانة وأشرف قدراً وأعلى منزلة وأطهر نسلاً من أبا الحسن علي ! .
أتى عقيل بن أبي طالب الى دار حزام الكلابي وطرق بابه ، فلما رآه رحب به قائلاً :
( قدمت أهلاً ووطئت سهلاً ) . فأخبره بمطلبه ، وفرح حزام بهذا الطلب ، ومن لا يفرح وهو يزوج ابنته من حجة الله على الخلق؟ وبهذا نالت فاطمة الكلابية شرف الدنيا والآخرة بزواجها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .
*
وكانت حرة كريمة ، متواضعة تحب أبناء فاطمة الزهراء عليها السلام । وقد شرطت على أمير المؤمنين في أول يوم لها في داره أن لا يناديها بعد باسم فاطمة ، كي لا تضيق صدور أبناء الزهراء عندما يسمعون اسم أمهم ، فأطلق عليها لقب أم البنين . وكانت اسماً على مسمىً . فقد أنجبت له أربع بنين . وكان أول هذه الأقمار هو العباس بن علي.
*
[ غـذتـك مـن ثـدي الـكـرامـة والـوفـا حـب الـحـسـيـن فـكـنـت أنـت عـطـاءهـا ]
*
نسبه من أبيه أشرف نسب ، علي بن ابي طالب عليه السلام ، من تشهد له الأعداء قبل الأصحاب بفضله وعلمه وشجاعته واخلاصه ووفاءه وتقواه ، ومن جهة أمة الشجاعة والمروءة والاقدام والبسالة ، فلما امتزجت هذه الخصال أنجبت أبا الفضائل كلها .
عند ولادته حضر أمير المؤمنين عليه السلام ، أخذه ونظر الى جماله وكماله ، والى يديه وما سيحل بهما ، فتأثر الامام عليه السلام وجرت دموعه ، وقبّل يديه ، فرأته ام البنين عليها السلام وسألته :
( سيدي هل به سوء؟ ) فأجابها : ( لا ، ولكن أبكي لما سيجري على يديه هاتين ، أخبرني حبيبي رسول الله ان ولدي هذا ينصر أخيه الحسين في كربلاء وستقطع يداه في نصرة أخيه ) . ومنذ ذاك الحين وأم البنين تعلم هذا الطفل منذ نعومة أظفاره التضحية والفداء والايثار ، علمته التواضع فكان لا ينادي أخويه الحسن والحسين الا بـ سيدي أو مولاي ، احتراماً لهما ، فهما امامان وهما أبناء فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وكان العباس للحسين مثل ما كان أمير المؤمنين لنبي الله ، نفساً بنفس ، سنداً في الرخاء والشدة .
*
[ فـهـززت سـيـفـك كـي تـطـمـن قـلـبـهـا بـيـد تـلـقـت فـي غـدٍ جـذاءهـا ]
*
حين انتهت الحوراء من رواية القصة ، التفتت الى أخيها أبو الفضل وأوصته بالحسين وأن لا يقصر في نصرته ، فهو الذي ادخره حيدر لهذا اليوم ، فطمنها بأنه لن يقصر في نصرته ، فاطمأن قلبها لذلك الفتى الباسل ، الذي اذا عاهد أوفى بعهده ووعده .
*
وحين قرر الحسين أن يترك المدينة ، دفعت أم البنين عليها السلام بشبابها الأربع لمرافقة أبي عبدالله ونصرته . فكان له نعم الأخ والسند ، لم يترك الحسين لحظه ، ولم يتأخر في تلبية نداء سيده ومولاه لحظه واحدة .
عند وصولهم الى كربلاء وبعد مضي عدة أيام ، نفد الماء من مخيم الحسين عليه السلام ، فأخذ العباس القربة وأمر بعض أصحابه بأخذ القرب وتوجهوا نحو نهر الفرات ، وحين اعترض طريقهم الاعداء ، لم يبالي بهم وشق طريقه نحو النهر والحشود تمنعه ، ولكن لا يمكن لأحد أن يقف ازاء ذاك الحصن المنيع ، فكشفهم عن النهر ، وملأ هو وأصحابه القراب وتوجهوا عائدين الى خيام الحسين حيث ارتوت صدور آل الرسول العطشى ، فلقب لذلك بساقي عطاشى كربلاء.
وكان من شدة قربه من الامام الحسين عليه السلام أن بعثه الحسين ، حين أتى له جماعة في ليلة التاسع من المحرم يريدون أن يكلموه فخاطب أخاه العباس قائلاً :
( اذهب بنفسي أنت يا أخي واسألهم ماذا جاء بهم وما الذي يريدون ) . وأطاع العباس أوامر إمامه وذهب الى القوم ومعه علي الأكبر وزهير بن القين وحبيب بن مظاهر وجماعة من أصحاب الحسين عليه السلام ، فقال لهم ما قاله الحسين عليه السلام ، فأجابوه : ( جاء أمر الأمير بالنزول على حكمه أو المنازلة ) ، فانصرف العباس الى الحسين ليخبره بمقالته ، فقال له الحسين : ( ارجع اليهم فإن استطعت أن تؤخرهم الى غدوة وترفعهم عنا العشية ، لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره ، فهو يعلم أني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه )
، ونقل العباس هذه الرسالة الى الاعداء .
*
[ وبـطـولـة مـن حـيـدر فـجـمـعـتـهـا فـي كـربـلاء لـكـي تـصـد بـلاءهـا ]
*

وفي صبيحة يوم العاشر من المحرم ، تجهز العسكرين للقتال ، وبدأت الحملات بالهجوم والقتال ، فقتل أصحاب الحسين وأبناءه واخوته وبني عمومته ، وقدَّم العباس عليه السلام اخوته من أمه قبله في سبيل الحسين عليه السلام । وحين انفنى جيش الامام الحسين عليه السلام لم يبقى معه من الرجال الا أخيه أبي الفضل ، وولده علي زين العابدين وكان عليل أقعده المرض عن القتال . أتى الأطفال الى أبي الفضل العباس يشكون العطش ، فأخذته الحمية والرأفة على هؤلاء الاطفال ، فذهب لكي يطلب الرخصة من أخيه الحسين قائلاً : ( يا أخي هل لي من رخصة ؟ ) ، فتأثر الامام ، فهذا أخاه وحامل لوائه سيذهب كما ذهب الآخرون ، فقال له الحسين : ( أخي أنت حامل لوائي واذا مضيت تفرق عسكري ! ) . وكان الامام الحسين عليه السلام يرى العباس بأنه كتيبة بأكملها ، فقال له العباس : ( قد ضاق صدري وسئمت الحياة وأريد أن آخذ بثأري من هؤلاء المنافقين ) . فأمره الحسين أن يذهب ليطلب الماء للأطفال ، فتوجه الى القوم وخاطبهم : ( يا قوم ، هذا الحسين ابن فاطمة وأطفاله عطاشى فاسقوهم من الماء قد أحرق الظمأ قلوبهم ) ، فخاطبه الشمر اللعين قائلاً : ( يابن أبي تراب لو كان وجه الارض كله ماء وهو تحت أيدينا لما أسقيناكم منه قطرة الا أن تدخلوا في بيعة يزيد ) . فلما رأى منهم ذلك أخذ القربة وتوجه نحو نهر الفرات . وقد كان عمر بن سعد قد أوكل على النهر من يحرسه ويمنع الحسين وأصحابه من الوصول الى الماء ، ولم يبالي أبا الفضل بكثرة عددهم ، وشق طريقه إليهم ، وأخذ يحصد الرؤوس الواحد بعد الآخر ، والأرواح تنتزع تباعاً . وكان الجيش يعرف تماماً من هو ، من جماله وكماله وفروسيته ، فهو الذي حضر مع أبيه المعارك وقاتل عندما كان صبياً في سن السابعة عشر ، لكن الشجاعة والبسالة كانت تقطر منه ، فكان يقتل أشجع الفرسان وأقواهم . فكشفهم عن الفرات ووصل اليه ، ونزل الى الماء واغترف غرفة بيده ، فأحس ببرودة الماء ، وكان قلب العباس كالصحراء القاحلة أو أشد جفافاً من الظمأ . وفي لحظة ترك الماء يسقط من يده راجعاً الى النهر ، تذكر الوفاء عطش المولى أبا عبدالله وأطفاله ، وأبى الوفاء الا أن يروي عطش ابن فاطمة وأكباد عياله قبل أن يرتوي قلبه ، فتجسدت أسمى معاني التضحية والايثار ، فكيف يروي حشاه ببارد الماء ومولاه يتلظى عطشاً ؟! بعدها ملأ القربة بالماء وأدبر راجعاً الى الخيام .
*
[ فـإذا الـكـفـان أشـارا بـالـبـنـان
أُنـظـر الـنـهـر تـرى جـسـمـاً كـثـيـر الـطـعـنـات ]
*
اعترض الأعداء طريق أبا الفضل ، فقاتلهم بشجاعة لا مثيل لها في الوجود ، فتراجعت الحشود عنه خائفة . فأتى إليه سهم قطع يده اليمنى فقال : ( والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن امام صادق اليقين ) ، فأخذ اللواء والقربة بيساره ، فأتى سهم آخر قطع اليد اليسرى فأردف قائلا : ( يا نفس لا تخشي من الكفار وأبشري برحمة الجبار قد قطعوا ببغيهم يساري فاصلهم يارب حر النار ) . وغدى حامل اللواء دون لواءه ودون أيدي ، وكان همَّه الوحيد هو ايصال الماء الى المخيم ، فمسك القربة بين أسنانه ، وأخذ يركض على فرسه ، فأتاه سهم يجري في الهواء نحو القربة فأريق ماء العطاشى ، فوقف حائراً ليس له يد فيقاتل ، ولا ماء ليرجع به الى الخيمة ، فأتى سهم آخر وقع على عين القمر فأصابها الخسوف . حرك أبو الفضل رأسه محاولاً اسقاط ذلك السهم ، فسقطت خوذته ، وكمن له لعينان من وراء نخلة بعمود من حديد ضربا به رأس العباس عليه السلام ، فهوى البطل على الأرض ونادى : ( عليك مني السلام يا أبا عبدالله )
*
[ عـمـد الـحـديـد بـكـربـلا خـسـف الـقـمـر
مـن هـاشـم فـلـتـبـكـيـه عـلـيـا مـضـر ]
*
وصلت صيحة أبي الفضل الى الحسين عليه السلام ، فأسرع راكضاً الى أخيه وحامل رايته ، يقوم تارة وتارة يسقط أرضاً ، التقط شيئاً رآه مرمياً على الأرض فقبّله ، وكانت كف أبي الفضل المقطوعة ، مشى قليلاً ثم التقط شيئاً آخر وقبّله وكانت الكف الأخرى ، وكان جسده ثاوياً عند النهر الذي لم يشرب منه قطرة ..
انقض أبي عبدالله عليه السلام على أخيه كالصقر عندما ينقض على فريسته ، رآه مقطوع اليدين ، وسهم في العين ، وضربة العمود هشمت رأسه الشريف ، والدماء تتفجر كالينابيع من جسده .
جلس عند رأسه ، أحس العباس بحركة قربه ، لم يره ، فعين أصابها العمى جراء السهم النابت فيها ، وعين تملأها الدماء التي تسيل من جراحه . ظن أنه أحد الأعداء ، جاء ليخرج روحه ، خاطبه العباس قائلا : ( يا هذا أقسم عليك بمن تعبد ، لا تقتلني حتى يأتي إلي ابن والدي ، أودعه ويودعني )
فبكى الحسين عليه السلام عند هذه الكلمات ، وقال : ( أخي أبا الفضل أنا أخوك الحسين ) . أخذ أبي عبدالله رأس العباس ووضعه في حجره ، وقام بمسح الدماء والتراب عن وجهه ، رفع العباس عليه السلام رأسه ورماه على الأرض ، أخذ الحسين عليه السلام رأسه مرة أخرى ووضعه في حجره ، أعاد أبو الفضل فعلته ، وأعاد الحسين رأس أخيه الى حجره ، وفي المرة الثالثة التي رفع العباس فيها رأسه ورماه على الأرض خاطبه الحسين قائلا : ( أخي أبي الفضل لماذا تصنع هكذا؟ )
فأجاب العباس عليه السلام : ( أخي أبا عبدالله ، أنت الآن تضع رأسي في حجرك وتمسح الدم والتراب عن وجهي ، ولكن بعد ساعة ، من الذي يضع رأسك في حجره ، ومن الذي يا أخي يمسح الدم والتراب عن وجهك ؟! ) .
*
اخترق ألم فضيع صدر الحسين عليه السلام ، فها هو يودع أخاه العباس ، حامل رايته ، وساقي أطفاله ، وعضيده ويده اليمنى ، وكبش كتيبته . فقام الحسين عليه السلام محاولاً حمل جسد العباس عليه السلام فاستوقفه قائلا : ( بالله عليك يا أخي إلا ما تركتني في مكاني ) ، فسأله الحسين عليه السلام عن سبب ذلك فقال له العباس : ( لأمرين ، الأول لأنه نزل بي الموت الذي لابد منه ، والثاني إني وعدت سكينة بالماء ولم آتِ به وإني مستح منها ) . وما هي إلا لحظات وفارقت روح بطل العلقمي الدنيا . غشت الدموع عينا الحسين فصاح : ( الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي ) .
*
[ نـادى وقـد مـلأ الـبـوادي صـيـحـة صـم الـصـخـور لـهـولـهـا تـتـألـم
أأخـي يـهـنـيـك الـنـعـيـم ولـم أخـلـك تـرضـى بـأن أرزى وأنـت مُـنـعَّـم ]
*
عاد الحسين عليه السلام يجر الحسرة والأسى على فقد أخيه الوفي ، رمز الأخوة والفداء ، استقبلته سكينة والأطفال والنساء ، تلك تسأل أين العم ، أين الذي وعدنا بالماء ، وتلك تسأل أين ابن والدي ، أين أخي العباس ، لم يجب الحسين على تلك الاسئلة ، رأى الأمل والألم يشع من عيونهم ، أمل بعودة المحامي والكفيل ، وألم من أن يكون مصيره مثل مصير الذين ذهبوا ولم يرجعوا ، اتجه الى خيمة أبي الفضل وأسقط عمودها ، فوصلت رسالته الى الأذهان . مات الكفيل والمحامي ، وانهدت الأسوار . فعلا منهم بكاء تفطر منه قلب الكون وكل الموجودات .
*
وحاز العباس على منزلة كبيرة ، فقد قال عنه الامام زين العابدين عليه السلام : ( رحم الله عمي العباس فلقد آثر وأبلى وفدا أخاه بنفسه حتى قطعت يداه ، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب ، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة )
*
وروي عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أنهم قالوا ، أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، تأتي يوم القيامة تشتكي ظلامات آل محمد ، وأول شكاية ترفعها لله عز وجل هي شكوى قطع يدين العباس عليه السلام والقصاص من قاتليه .
ومع أن الكفان قد قطعتا ، فإن الطغاة لم يستطيعوا منع الكفين من استمرار عطائهما ، فلا يزال قمر بني هاشم شهماً كريماً لا يرد من أتاه سائلاً ، ولهذا أطلق عليه لقب باب الحوائج .
*
[ يـا كـاشِـفَ الـكَـربِ عـن وجـهِ الـحُـسـيْـن ، اكـشِـف كـربـي بِـحَـقِّ أخـيـكَ الـحُـسـيْـن ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق