الثلاثاء، أغسطس 31، 2010

► قتـلوا الصـلاة فـي محرابهـا ◄


[ وإن سـئـم الـبـاكـون فـيـك بـكائهـم مـلالاً فـإنـي لـلبـكـاء مـطـيـل ]
.
بات أمير المؤمنين عليه السلام اليوم الذي تلى ضربته ، معصب الرأس ، ممداً على فراشه ، ومن حوله عياله البنين منهم والبنات ، لا تهدأ لهم ونة ولا يجف منهم مدمع ، والزفير يعلوهم حسرة وكمداً । ألقت زينب وأم كلثوم بنفسيهما عليه وهما يندبانه ويقولان : ( من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا تبرح ولا ترقى ) . ففاضت دموع الأمير على خديه وهو يقلب طرفه وينظر الى أهل بيته . فدخلوا عليه الناس وهم باكون ، يعلوهم الحزن والأسى ، وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ويقول : ( أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة أمامكم ) ، فضج الناس بالبكاء الشديد ، فقام حجر بن عدي الطائي وأنشد قائلاً :
.
فـــــيا أســـــفي عــــلى الــمـولى التقي...........أبــــــي الأطــــــهار حــــــيدرة الــزكي
قتـــــله كـــــافر حــــــنــــــث زنـــيـــــم..........لعــــــين فـــــــــاســــق نــــــغل شقـــي
فـــــــيلعن ربـــــنا مـــــن حــــاد عــنكم..........ويــــــبرء منــــــــكم لعـــــــناً وبــــــيّ
لأنـــــكم بـــــيوم الحــــــشــــر ذخـــري...........وأنــــــتــم عـــــدة الهـــــادي النـــــبي
.
فلما بصر به الإمام وسمع شعره سأله : ( كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ )
فقال : ( والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً ، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك ) . كان جوابه نابعاً من عشقه لإمامه ، رأى التضحية بالنفس أهون عليه من ترك درب أمير المؤمنين عليه السلام . وعلى مر الدهور ، سطر محبوا الامام أروع الأمثلة في الفداء والتضحية ، سالت دمائهم على أرض العشق ، وقدموها رخيصة لتراب الامام حباً له وكرامة ، وما حادوا شبراً عن نهجه المستقيم .
وأسر ابن ملجم وقيدوه ، فكان الامام يوصي ابنه الحسن ويقول له : ( ارفق يا ولدي بأسيرك ، وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرتجف خوفاً وفزعاً؟ ) ، وأمره أن يسقوه من ما يشربون ويطعموه من ما يأكلون ، وإن توفي الأمير من ضربته فضربة بضربة وأن لا يمثلوا بجسده فإن المثلة حرام ولو بالكلب العقور . وكلما شرب الامام لبناً أمرهم بأن يأخذوا الإناء ويشربوا قاتله من نفس اللبن ، فما أرحمك يا ولي الله !
.
[ إذا كان هذا صنعك بقاتلك واحسانك إليه ، فكيف بمحبيك؟ ]
.
وكان الناس متجمعون عند دار الأمير عليه السلام ، فخرج إليهم الإمام الحسن عليه السلام وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف ، فانصرف الناس ، ما عدا الأصبغ بن نباتة لم ينصرف ، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال : ( يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟ ) ، فقال : ( بلى ، ولكني رأيت حاله ، فأحببت أن أنظر إليه فأسمع منه حديثاً ، فاستأذن لي رحمك الله ) . فدخل الحسن عليه السلام ولم يلبث أن خرج وأذن له بالدخول . فدخل الأصبغ على المولى علي عليه السلام وكان مستنداً معصوب الرأس بعمامة صفراء ، ولم يعلم الأصبغ أيهما أشد صفرة وجه الإمام أم العمامة ! فأكب عليه باكياً وقبله ، فخاطبه الإمام قائلاً : ( لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة ) . وكان الأصبغ متيقناً ، علم اليقين ، أن الجنة جزاءه ، لكنه كان يبكي فقده ، يبكي على دنياً لن يكون فيها نور الامام عليه السلام .
.
ولما جن عليهم ظلام ليلة الواحد وعشرين ، حضر الطبيب وكشف عن الامام عليه السلام ، فقال بعد أن استعبر وبكى : ( إعهد عهدك يا أمير المؤمنين، فإن الضربة وصلت إلى الدماغ ) . فجمع الأمير أولاده وأهل بيته وودعهم وقال لهم : ( الله خليفتي عليكم ، وهو حسبي ونعم الوكيل ) . وتزايد ولوج السم في جسده الشريف حتى وصل الى قدميه واحمرتا ، فأيسوا منه ، وعرضوا عليه المأكل والمشرب فأبى ثم نادى عياله بأسمائهم فرداً فرداً وجعل يودعهم وهم يبكون . حينها ألقت الحوراء نفسها على صدر أبيها قائلة : ( يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن اسمعه منك ) ، فأجاب : ( يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ) . وتجسدت أمام الأمير مشاهد لذلك اليوم الموعود ، الذي فيه يقتل أولاده وتفرق رؤوسهم عن أجسادهم ، وتسبى بناته ، فتزايدت عليه الهموم ، فذكرى الطفوف تدمي القلب .
.
أخذ الامام يوصي أبنائه ، وأن الإمامة من بعده لابنه الحسن ومن بعده الحسين عليهما السلام ، وأن يطيعوهما ولا يخالفونهما ، ويوصيهم بوصاياه الى طلوع الفجر . ونادى الامام ولديه الحسن والحسين ، وفتح يده وضمهما إلى صدره وعيناه تهملان دموعاً ، ثم نظر الإمام إلى أولاده فرآهم تكاد أنفسهم تزهق من النوح والبكاء ، فجرت دموعه على خديه ممزوجة بدمه ، فقال عليه السلام : ( أتبكيا علي؟ ابكيا كثيراً واضحكا قليلاً ، أما أنت يا أبا محمد ستقتل مظلوماً مسموماً مضطهداً ، وأما أنت يا أبا عبد الله فشهيد هذه الأمة وسوف تذبح ذبح الشاة من قفاك وترض أعضاؤك بحوافر الخيل ويطاف برأسك مماليك بني أمية وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسبى وأن لي ولهم موقفاً يوم القيامة ) .
.
.
فأوصى سيد الأتقياء وصيته الأخيرة ، وأوصى الامام الحسن بتغسيله وتكفينه وتحنيطه ببقية حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأضاف سلام الله عليه : ( ثم ضعني على سريري ، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير ، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه ، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر ، فحيث قام سريري فهو قبري )
ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : ( أستودعكم الله جميعاً ، حفظكم الله ، سددكم الله جميعاً ، وهو خليفتي عليكم ، وكفى بالله خليفة ) ، وذكر الله كثيراً كثيراً ، ثم تشهد الشهادتين ، واستقبل القبلة وغمض عينيه ومدد يديه رجليه ، ثم فاضت روح المظلوم ، وقضى نحبه شهيداً ، ألا لعنة الله على ظالميه وقاتليه .
.
[ تَـأسَّـفَـتِ الـحـيـاةُ عَـلـيـكَـ لـمّـا رَحَـلْـتَ وَوَدَّعَـتْ بـحـراً نَـدِيّـا ]
.
وبكيت زينب وصرخت ، وكذلك فعل البقية ، فارتفعت الصيحة من دار ولي الأولياء فعلم الجميع أن مولاهم قد فارق الحياة ، فصاحوا صيحة عظيمة ارتجت لها الكوفة . غسلوه وكفنوه ووضعوه على السرير ، فارتفع مقدم السرير بدون أن يُرى حامله ، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل ، فرفع أبناء علي بن أبي طالب المؤخر وساروا حيث سار المقدم ، وخرجن النساء من خلفه نادبات لاطمات ، فردهن المجتبى عليه السلام الى الدار ، وكان الحسين عليه السلام يقول : ( من أجلك تعلمت البكاء ، والى الله المشتكى ) . وحيث وضع المقدم وضعوا المؤخر ، وصلى الحسن بالناس جماعة ، فلما فرغ ، نحى السرير وكشف التراب ، فوجد مثلما قال أباه ، وجد قبراً محفوراً ، ولحداً مشقوقاً ، وساجة منقورة ، مكتوب عليها : هذا ما ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر المطهر . فأنزلوه في حفرته وأهلوا عليه التراب ، فاختلط التراب بدموعهم ، وودعوه الوداع الأخير ..
.
.
السلام على الامام الزكي ، حليف المحراب ، السلام على صاحب المعجز الباهر ، والناطق بالحكمة والصواب ، السلام على من عنده تأويل المحكم والمتشابه ، وعنده أم الكتاب ، السلام على من ردت عليه الشمس حين توارت بالحجاب ، السلام على محيي الليل البهيم بالتهجد والاكتياب ، السلام على من خاطبه جبرائيل بإمرة المؤمنين بغير ارتياب ، ورحمة الله وبركاته .

الأحد، أغسطس 29، 2010

~¤ بـل مقتـولُ قـتـلا ¤~



[ لـــقَـــد هـَــدَّتْ مـُــصـــيـــبَـــتُـــكَ الأنَــــامْ ]

قبل دخول شهر رمضان العظيم .. ارتقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منبره في آخر جمعة من شهر شعبان ، وأخذ يحدث الناس ويعرفهم فضل الشهر المقبل عليهم ، وما فيه من الأجر والثواب الكثير . فقام ولي الله علي بن أبي طالب وسأل ابن عمه الكريم عن أفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك ، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : ( يا أبا الحسن ، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل ) . فاستعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بكى ، فسأله الأمير عليه السلام عن سبب بكائه ، فقال : ( يا علي ، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك وأنت تصلي لربك ، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك ، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك ) .

*

وقد صدقت نبوءة خاتم المرسلين ، وتحققت في شهر رمضان ، في ليلة التاسع عشر من عام 40 للهجرة.


كان أمير المؤمنين علي عليه السلام قد جعل افطاره في ذلك اليوم عند ابنته أم كلثوم عليها السلام ، وكان زهد الأمير عليه السلام في كل شيء ، الملبس والمعيشة وحتى في الطعام ، فكان يلبس من الثياب ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، ومعيشته بسيطة ، لا تقارن مع عظمة منزلته الكبيرة عند رب العباد وعند العباد ، وكان هدفه من كل هذا ، الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة ونعيمها الدائم ، فهو الذي طلق الدنيا ثلاثًا لا رجعة فيهم ، وهو القائل : ( أأقنع من العيش أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الحياة وأكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع أو لا طمع له بالقرص ). فكان يعيش عيشة الفقراء ليكون سلوى لهم وأسوة حسنة . أتت أم كلثوم بالافطار ، وكان عبارة عن قرصان من خبز الشعير ولبن حامض وجريش ملح ، وجعلته أمام أبيها أمير المؤمنين عليه السلام ، فأطال النظر فيه ، ثم التفت وخاطبها : ( بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عز وجل يوم القيامة . أنا أريد أن أتبع أخي وابن عمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما قُدّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله . يا بنية ، ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه ، إلا طال وقوفه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ) . فرفعت عنه اللبن الحامض ، وأفطر عليه السلام بخبز الشعير والملح الجريش . وعندما انتهى حمد الله كثيراً وأخذ في الصلاة والدعاء في تلك الليلة ، فما بين تسبيح وابتهال ، وتضرع وبكاء خشية من الله تعالى . وكان عليه السلام يكثر من الخروج والنظر الى السماء ويقول : ( هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فما كذب الأمير عليه السلام ولا كُذِّب . وكان يعود الى مصلاه قائلاً : ( اللهم بارك لي في الموت ) ، ويكثر من قول إنا لله وأنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

*

ولما قرب موعد أذان الفجر ، اتجه أبا الحسن يريد الخروج ، وكان في الدار إوزات ، فلما رأينه صحن في وجهه ، فقال : ( صوائح تتبعها نوائح ) ، وذهب الى الباب فتعلق مئزره بالباب فقال :


أشــدد حيازيمك للموت..........فـــــإن المــــوت لاقـيكــا
ولا تــــجزع من الموت..........إذ احــــــلّ بـــــواديــــكـا
كما أضــــحـــكك الـدهر...........كـــــذاك الــدهر يبـكيكا


ومشى طوال الطريق الى مسجد الكوفة ، وهو يستذكر السنين التي قضاها ، والتي جمعته بابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجته البتول عليها السلام ، ومصيبتهما ، وما لاقى بعدهما من الهموم والأكدار ، ولهيب الشوق يزداد يوماً بعد يوم ، وطول الفراق يؤرق جفنه ويقض مضجعه ، وما أقرب اللقاء بهما الآن !

*

دخل المسجد ، وأخذ يوقظ النائمين فرداً فرداً ، حتى وصل الى ابن اليهودية ، عبدالرحمن بن ملجم المرادي ، وكان مضطجعاً على بطنه ، فخاطبه : ( يا هذا قم من نومتك هذه فإنها نومة يمقتها الله ، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار ، بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء ، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء ، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء ) ، وأردف قائلاً : ( لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ) . وكان ابن ملجم قد أخفى سيفه تحت إزاره . ارتقى حيدر المئذنة وأخذ يؤذن : ( الله أكــبــر ، الله أكــبــر .. ) ، فما بقى بيت من بيوت الكوفة إلا ودخله صوت أمير المؤمنين عليه السلام ، وكأنه بصوته يودع البيوت والشوارع ، وزوايا الكوفة عاصمة إمامته ، فكان هذا الأذان آخر أذان يسمعه كل الوجود بصوت وصي الرسول الأكرم . نزل الامام عليه السلام لكي يصلي نافلة الصبح في محرابه ، ومن خلفه وقف اللعين ، ركع وأطال الركوع ، وهوى المولى الى السجدة الأولى ، أطال فيها ، سبح الله وكبره ، وناجاه مناجاة الملتجئين الى الله ، كان بحق عبداً لله ، قانعاً راضياً بما قسمه الله له ، واثق من قرب الجليل إليه ، راغباً في مرضاته ، هارباً من غضبه وسخطه ، فكان هو العاشق والله هو المعشوق ..

*

[ لبس الإســــــلام أبـــــــراد الســــــّواد .... يوم أردى المرتضى سيف المــــرادى ]

*

خرّ صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين . خرّ المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله و ولي أمر الله ، وبستان حكمة الله و عيبة علمه . خرّ السَمحُ السخيُ البهيّ ، البُهلولُ الزكيّ الأبطحيّ ، الرضيّ المِقدام الهمام ، الصابرُ الصوّام ، المهذَّبُ القَوّام . خرّ الأسد الباسل ، خرّ من كان للعرب سيدها ، وللوغى ليثها . خرّ أبو السبطين مخضباً بدمائه الزاكية الطاهرة ، فقد أشهر اللعين سيفه وهوى به على رأس المولى علي عليه السلام حينما رفع هامته الشريفة من السجود ، فصاح ابن ابي طالب : ( فزت ورب الكعبة ) ..

وصاح جبرئيل في السماء : ( تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى )

تجمهر الناس عند مسجد الكوفة ، ضجوا بالبكاء حينما رأوا مولاهم غارقاً في بحر دمائه ، غرقوا في محيط أحزانهم وهمومهم ودموعهم ، أسرع الحسنان الى أبيهما ، وقد أفجع قلبيهما منظره ، رأوه والدماء تسيل على وجهه وشيبته ، مشقوق الرأس ، مصفرّ الوجه من شدة السم. فتقدم الحسن عليه السلام لكي يصلي بالناس ، وقد جلس أمير المؤمنين ، لا يقدر على النهوض . لقد جزع الحسن والحسين من حالة أبيهم ، فكان النحيب يطول ، والأنين لا يزول ، والأب العظيم يهوّن على أبنائه الروع ، ثم طلب الامام من أبنائه أن يحملوه الى المنزل فلا طاقة له بالنهوض.

حمل الحسنان أبيهما ، والجموع من حوله باكون محزونون ، قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب ، واتجها به الى البيت ، ورأت زينب أبيها محمولاً على الأكتاف ونادت : ( وا أبتـــاه وا عليــــاه )

[ لــــم أنـــس زيـــــنب مذ رأته وجسمه.........مـــــن فــــيض مفـــرقه الشريف ملفع
فــــغدت تخـــــضب شــــعرها لمـصابه..........وعـــــليه تــــــذرف دمـــــعها وتـــفجع ]

الجمعة، أغسطس 06، 2010

مـا أقسـآهـآ مِـن ذكرَى


.
.

التاريخ .. الثاني من أغسطس لعام 1990 ، يوم الخميس يوم مشؤوم في تاريخ الكويت
فعند بزوغ خيوط الفجر الاولى وحينما كان الناس نيام ، تدفقت دبابات العدو العراقي الى أراضي الكويت وبدأت بالتوغل والتعمق فيها ، أحس الجميع مع نسمات الصباح الاولى أن جو الكويت تغير ، الهدوء مهيب ، انتشر خبر دخول العراقيين الى الكويت ، فأنكر الأهالي ولم يصدقوا ، العراق؟ هل هي فعلاً؟ لماذا؟ لم تقصر الكويت معهم في حربهم مع ايران ، فكيف ردوا الاحسان؟
همهات كثيرة من هنا وهناك .. وتأكدوا من الخبر حينما رأوا الجنود منتشرين كالجراد في شوارع الكويت ، فاستيقظ الحس الولائي والضمير الوطني لدى الشعب من عساكر ومدنيين ، وبدأت صفوف العساكر في الدفاع عن الوطن والعرض ، واستشهدت الطلائع الأولى ، وكلهم فرحة بشرف الشهادة والحسرة على انتهاك حرمة الجيرة ، الحسرة على الكويت المغدور بها.
.
.
سالت دماء شهداء الطليعة الاولى وروت الارض بالوفاء والتضحية ، فذلك فداء للكويت.
لا أذكر من الغزو الغاشم الا السواد والظلام ، الظلام في الليل والنهار ، الخوف والرهبة ، ودوي القنابل وقصف البيوت الآمنة واعتقال أهلها ، القتل والنهب والسرقة ، التعذيب بأبشع الوسائل ، وسائل لم تعرفها البشرية ، فهي وحشية لأقصى درجة ، مجردة من الانسانية والرحمة ، لم يرحموا لا الشيخ الكبير ولا الطفل الصغير ، فطرق التعذيب كانت بربرية ، فكيف استطاعوا الإشراف على هذا التعذيب ورؤيته؟ بل والضحك والتلذذ برؤية المعذب ينفجر من الألم ، إن الحجر وهو حجر ليتفتت كمداً من ذلك المنظر!
الكويت أصبحت خراب ، آبارها الغنية احترقت ، سماؤها الصافية تلوثت ، والبحر النظيف امتلأ بالكائنات النافقة والنباتات الميتة ، كل شبر من الكويت تلوث: برها وبحرها وجوها.
.
.
استمر شباب المقاومة في المقاومة .. منذ اليوم الاول ، فالقلب الذي ملئ بالعشق يجد طريق التضحية في سبيل الحبيب سهلاً يسيراً. مسيرات تهتف بـ " تحيا الكويت " ، " الكويت للكويتيين " ، وتمزيق صور العدو المحتل ، كانوا ليوثاً في وجه الموت ، القتل عندهم أهون من رؤية الوطن ينتهك. ولم يقتصر عملهم على القتال وحسب ، بل تعاونوا وساندوا الأهالي وأمدوهم بالطعام والماء وما يحتاجونه. كانوا مجموعة من الخلايا تعمل كلها تحت لواء الكويت. قتلوا الولد أمام والديه ، قتلوا الوالد أمام أبنائه ، ذبحوا أبناء الكويت على أرض أمهم ! أمهات أثكلت وأخرى ترملت ، أصبح الأبناء أيتام وجرح في أعماقهم لا يندمل أبد الدهر.
.
.
متحف شهداء القرين ، رمز للفداء ودليل حي على معاناة الشعب الكويتي. فكلما أمر بسيارتي وأراه ، يقشعر بدني وتترقرق الدموع في عيني ، فما أقسى تلك المحنة. بيت مملوء بالثقوب جراء الرصاص ، ومن الداخل ترى على الحيطان والأرض وكل زاوية آثار دماء عمرها 20 عاماً ، لشباب في مقتبل أعمارهم ، وجدوا الموت كالعسل في سبيل الوطن. وترى صورهم منتشرة ، مع أبنائهم وعائلاتهم المحترقة على فقدهم.
هنالك أسرى أعطاهم الله عمراً آخر ، وعادوا بعد التحرير من السجون العراقية ، وحكوا ما لاقوا من الظلم والعذاب في ذلك المكان الموحش ، فالسجن عبارة عن سراديب في أعماق الارض ، مظلمة كظلمة الليل ، لا يعرف الليل من النهار فيها ، جوها رطب وعفن ، السجون صغيرة ، مكدسة بالأشخاص من الجنسين: ذكر وأنثى ، عذبوا الشباب واغتصبوا الفتيات بحقد وانتقام. وكان التعذيب بألوان وأشكال مختلفة: جسد عاري معلق على الحائط يضرب من كل صوب ، أو مرمي على الأرض تصيبه الركلات في كل جزء من جسده ، صواعق كهربائية في المخ تصيب المرء بالجنون ، تمزيق الاجساد وهي حية .. أساليب متوحشة يعجز المرء عن وصفها ..
فقدت الكويت ما يزيد على الـ 1400 شهيد ، ومنذ الازمة والى اليوم تتسلم الكويت رفات أبناءها وبقايا أجسادهم ، ولا تزال هناك أجساد مفقودة لأشخاص فقدوا في الأزمة. صحيح أن مدة الغزو كانت سبعة أشهر ، لكنها مرت بطيئة جداً على قلوب أهلها. عشرون عاماً مرت على الذكرى ولكن لا تزال محفورة في الذاكرة ، كأنها حدثت بالأمس ، ولن ننساها ..
.
لا أعاد الله تلك الأيام

الأحد، أغسطس 01، 2010

حَـيـآتِـي .. ذِكـرَيـآتـي .. ღ



.
.
إن حياة الانسان وعمره كله عبارة عن ذكريات ، فما يحدث اليوم يصبح ذكرى غداً ، صوراً تنطبع في مخيلة الانسان فلا يستطيع نسيانها ، ذكريات الطفولة والصِّبا والشباب ، لكل مرحلة من حياة الانسان طعم خاص ولوحة لها ألوانها الخاصة ..
فلوحة الطفولة مملوءة بالألوان الزاهية الهادئة ، التي تبعث البهجة في النفس لصفائها ونقائها ، وغالباً ما يتشارك البشر نفس هذه اللوحة .
ولا ينسى الطفل تجاربه ما حيى ، لأن التجارب التي يخوضها الطفل تظل محفورة في ذاكرته ، مؤلمة كانت أو مفرحة . وأكثر شيء يمكنه أن يرسم الابتسامة على وجه الطفل ، حينما يكون محاطاً بأسرته ، أمه وأبيه واخوته ، وتمنياته ببقائهم معه أبد الدهر ، وهذه الأمنية ليست حكراً على مرحلة الطفولة ، بل هي أمنية يتمناها الكبير قبل الصغير ، فثبات الأسرة وتماسكها تقوي ذات الفرد وتمده بالقوة.
.
.
وتبدأ سنين الصبا ، ويبدأ بوضع مبادئه التي يجب أن يسير عليها في حياته ، ولكن يمكن لهذه المبادئ أن تتغير اذا أحس أنه من الواجب تغييرها ، حتى ولو كان يريد تغييرها للأسوء ، إنما تدل مبادئ الفرد على شخصيته وأسلوبه في الحياة . وتكثر التجارب عندما يفتح باب سن الشباب ، فيفشل ويحزن ، وينجح فيفرح ، وتكون تجاربه الفاشلة والناجحة دافعاً له لخوض المزيد ، ليثبت ذاته . وعلى الانسان في هذه المرحلة أن يكون دقيقاً في اختياراته ، لا سيما فيما يتعلق بدراسته وعمله أو في اختيار شريك الحياة ، لأنها ستدوم طوال العمر . فمن يدرس تخصصاً يحبه ينجح فيه ويبدع أيّما ابداع ، ويجد ذاته فيه ، وعلى العكس عندما يدرس في مجال لا يقدر أن يحدده موقعه فيه.
وفي هذه الحياة ، توجد مطبات وصعوبات تواجهنا ، تظل عائقاً أمامنا ، ربما يطول مدة وجودها وربما تكون قصيرة ، نحن الذين نسببها أو الظروف التي ليس لنا يدٌ فيها . وبين الحينة والأخرى توجد دمعة وزفرة ، ابتسامة وفرحة ، فيتقلب الانسان ما بين حزن وفرح ولا يدوم أحدهما ، لأن دوام الحال من المحال.
.
.
حياتنا وذكرياتنا ، نحن الذين نحددها ونرسمها بأيدينا ، ودروبنا تركها الله لنا لنختارها بأنفسنا ، فدائماً دائماً هنالك طرق عدة وليس طريق واحد . فلا مكان لليأس في أنفسنا ، حتى ولو ضاقت علينا الحياة ، فلابد من مخرج ..