الثلاثاء، يناير 25، 2011

{ الأربعين } .. تجديد العهد والولاء


*
[ كـذب الـمـوت فـالـحـسـيـن مـخـلـد
كـلـمـا أخـلـق الـزمـان تـجـدد ]
*
عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال : ( علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الاربعين ، والتختم باليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )
*
بين أزقة الشام وشوارعها ، راح رأس ابن بنت رسول الله يطوف حول الطرقات وهو يرتل القرآن ، فكان آية من آيات الله الزاهرة ومعجزاته الباهرة . ولم يتوقف الأنين والنحيب على سيد الشهداء وأصحابه الصرعى في أرض الطفوف . فما زالت الشمس في حالة الكسوف منذ رفع رأس الحسين على الرمح ، ولا زالت السماء تمطر دماً مذ هوى ريحانة المصطفى مرملاً بالدماء على أرض كربلاء ، وما زالت الدموع تهطل عليه بغزارة منذ يوم العاشر كأنه قد قتل بالأمس ، وما زالت ذكراه تجدد والزاحفون يزحفون لقبره مذ وصل زين العباد وزينب والنساء الى كربلاء في يوم الأربعين .
فبعد كل المآسي التي جرت على آل بيت الحسين في الشام وما تجرعوه من غصص وأرزاء ، قرر اللعين يزيد ارسالهم الى مدينة جدهم قبل أن تقوم ثورة عليه . وعرض على الامام زين العابدين مبلغاً من المال تعويضاً على قتله لسيد الشهداء ، فاعتصر قلب الامام حزناً وكمداً ، فكنوز الدنيا كلها لا تساوي اصبع الحسين المقطوع . وطلب منه أن يعطيه الرؤوس لكي يدفنها مع أجسادها فسمح له بذلك ، وأرسل معهم دليلاً يقودهم في الطريق .
وقامت النساء تودع قبر رقية ، وعمتها زينب تبكي فراقها .
*
سار الركب في الطريق ولما وصلت القافلة الى مفترق الطرق أتى السجاد الى عمته زينب وقال : ( عمة زينب قد وصلنا الى مفترق الطرق ، هذا الطريق يؤدي بنا الى المدينة وهذا الطريق يؤدي بنا الى كربلاء . عمة زينب ماذا تأمرين )

فاشتمت السيدة زينب نسيم كربلاء ورائحة الحسين الزكية ، فاشتاقت نفسها للقاء الأحبة فقالت : ( يابن أخي مر بنا الى كربلاء لكي نجدد العهد بأبيك الحسين )
*
كان عند نهر الفرات جابر بن عبدالله الأنصاري ، وكان صحابياً ممن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع كلامه ، وفي أواخر أيام حياته كان أعمى البصر . وقد كان معه غلام له اسمه عطية ، فلما اغتسل من ماء الفرات ولبس ملابسه أخذه غلامه الى قبر الحسين لكي يزوره ، فلما وصل الى القبر الشريف ولامسه غشي عليه ، فرش غلامه عليه الماء الى أن أفاق ، ثم صاح باسم الحسين ثلاث مرات ثم قال :
*
( حبيب لا يجيب حبيبه، وأنّى لك بالجواب وقد شخبت أوداجك على أنباجك ، وفرّق بين رأسك وبدنك ، فأشهد أنك ابن خاتم النبيين ، وابن سيد الوصيّين ، وحليف التقى ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء وابن سيد النقباء ، وابن فاطمة سيدة النساء ، ومالك لا تكون هكذا؟ وقد غذتك كف سيد المرسلين ، وربيت في حجر المتقين ، ورضعت من ثدي الإِيمان ، وفطمت بالإِسلام . فطبت حياً وطبت ميتاً ، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة بفراقك ، ولا شاكّة في الخيرة لك ، فعليك سلام الله ورضوانه ، وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا )
*
ثم رفع رأسه وجال ببصره حول القبر وقال : ( السلام عليكم أيتها الأرواح التي حلت بفناء الحسين ، وأناخت برحله . أشهد أنكم أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم الملحدين ، وعبدتم الله حتى أتاكم اليقين . والذي بعث محمداً بالحق ، لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه )
*
فاستغرب غلامه منه قوله وسأله : ( كيف؟ ولم نهبط وادياً ، ولم نعل جبلاً ، ولم نضرب بسيف ، والقوم قد فُرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم ، وأُرملت أزواجهم )
*
فقال له : ( يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مَنْ أحبَّ قوماً حشر معهم ، ومن أحب عمل قوم أُشْرِكَ في عملهم . والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ، إن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه )
*
وما لبثوا أن رأوا سواد قد طلع عليهم من البعد ، فقال جابر الى غلامه : ( انطلق إلى هذا السواد وآتِنا بخبره فإن كانوا من أصحاب عُمر بن سعد فارجع إلينا ، لعلَّنا نلجأ إلى ملجأ ، وإن كان زين العابدين عليه السلام فأنت حُرٌّ لوجه الله تعالى )
*
[ قـم لـلـرؤوس ولـلـسـجـاد مـنـتـفـضـاً واسـتـقـبـل الـركـب جـاء الـركـب مـن سـفـر
لـكـربـلاء مـن الـشـامـات قـد وصـلـوا وخـيـمـوا فـي مـكـان الـحـزن والـكـدر ]
*
فذهب الغلام وأسرع راكضاً الى سيده يقول له : ( سيدي ، قم واستقبل حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هذا زين العابدين قد جاء بعمَّاته وأخواته )
وكان الركب قد وصل في العشرين من صفر .
*
فلما دنت القافلة من قبور الشهداء ، ألقت النسوة بأنفسهن من فوق النياق على قبر الحسين ، يقبلن القبر شوقاً ولهفة إليه ، فقد فارقوه أربعين يوماً ، ومن بعده لاقوا الويل والمتاعب ، وهن اللاتي كن معززات مكرمات في حياة مولاهن الحسين . فقام جابر ماشياً حتى وقف أمام الامام السجاد فخاطبه الامام قائلاً : ( أجابر هذا؟ )
فقال جابر : ( بلى يابن رسول الله ، فداك جابر )
فقال الامام بانكسار وحزن : ( يا جابر ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا )
*
جلست زينب عند قبر أخيها مع بناته وزوجاته ونساء بني هاشم يبكين وينتحبن . فسمعت النساء بنت علي وهي تخاطب الامام وتعتذر له ، فخاطبتها زوجة من زوجات الحسين وسألتها عن سبب اعتذارها ، فهي لم تقصر معهم أبداً وحافظت على وصية الحسين لها ، أطعمتهم حين جاعت ، وأروتهم حين ظمأت ، وآثرتهم على نفسها ودافعت عنهم جميعاً . فقالت لها العقيلة أن اعتذارها بسبب موت رقية ، فقد رجعت النساء والأطفال ما عدا صغيرة الحسين التي ظلت في قبرها غريبة عن تلك الديار وبعيدة عن أهلها .
*
ثم قامت النساء ، ذهبت رملة الى قبر ابنها القاسم ، وليلى الى قبر ولدها علي الأكبر ، أما الرباب فقد بقيت عند قبر الحسين ، فرضيعها مدفون على صدر أبيه .
وقامت الحوراء تبحث بين القبور ، تبحث عن قبر معين فرآها السجاد وانقبض قلبه ، علم ما تريد عمته ، فذهب إليها والدموع تملأ عينيه وقال : ( عمة زينب أنا أعلم أي قبر تريدين )
ففاضت روحها الوالهة الى صاحب ذلك القبر وقالت : ( يابن أخي دلني على قبر ابن والدي العباس )
فمضى الامام بعمته زينب ناحية الفرات حيث دفن بطل العلقمي . ألقت زينب بنفسها على قبر حاميها وكفيلها تشكو له مصائبها ورزاياها وما لاقته من بعد ما غاب نور قمر بني هاشم عن دنياها .
*
وأعاد الامام السجاد دفن الرؤوس مع أجسادها . وظلوا في كربلاء لمدة ثلاثة أيام ، بعدها سار الركب الى المدينة المنورة .
*
[ كـنـت فـي الأصـلاب نـوراً مـن أمـيـر الـمـؤمـنـيـن
كـنـت فـي الأرحـام فـي خـيـر نـسـاء الـعـالـمـيـن ]
*
قال الامام الباقر عليه السلام : ( إنَ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء )
*
وقال أيضاُ الامام جعفر الصادق عليه السلام : ( إنّ السماء بكت على الحسين عليه السلام أربعين صباحاً بالدم ، وإنّ الأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد ، وإنّ الشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة ، وإنّ الملائكة بكت عليه أربعين صباحاً )
*
ومنذ أن جددت زينب العهد بأخيها الحسين وزارته ، وكما زار جابر الامام الحسين عليه السلام في الأربعين ، أصبحت قلوب الملايين من الناس تهوي الى كربلاء في يوم الاربعين لتجدد ذكرى الطفوف وتجدد العهد بدموعها مع مولاها الحسين . فكما قال الامام العسكري إن زيارة الأربعين علامة من علامات المؤمن . ولزيارة الأربعين أجر عظيم عند الله تعالى وقد حث على زيارة الاربعين وزيارة عاشوراء الائمة الطاهرين عليهم السلام .
*
دخل معاويه بن وهب على الامام الصادق عليه السلام و هو فى مصلاه فجلس حتى قضى صلاته ، فسمعه و هو يناجى ربه و يقول :
*
( يا من خصنا بالكرامة ووعدنا الشفاعة وحملنا الرسالة وجعلنا ورثة الانبياء وختم بنا الأمم السالفة ، وخصنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقى ، وجعل أفئدة من الناس تهوى الينا ، اغفر لى ولاخوانى ، وزوار قبر أبى الحسين بن على صلوات الله عليهم الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبة فى برنا ، ورجاء لما عندك فى صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، واجابه منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدونا ، أرادوا بذلك رضاك ، فكافئهم عنا بالرضوان واكلأهم بالليل والنهار ، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف ، واصحبهم واكفهم شر كل جبار عنيد ، وكل ضعيف من خلقك أو شديد ، وشر شياطين الانس والجن ، وأعطهم أفضل ما أملوا منك فى غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم و أهاليهم وقراباتهم . اللهم إن أعدائنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص الينا خلافاً منهم على من خالفنا . فارحم تلك الوجوه التى غيرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التى تتقلبت على قبر أبى عبدالله عليه السلام ، وارحم تلك الأعين التى جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التى جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخه التى كانت لنا . اللهم إنى أستودعك تلك الأنفس و تلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش الأكبر )
*
فما زال صلوات الله عليه يدعو بهذا الدعاء و هو ساجد فلما انصرف قال له بن وهب : ( جعلت فداك لو أن هذا الذى سمعته منك كان لمن لا يعرف الله لظننت أن النار لا تطعم منه شيئاً أبداً . والله لقد تمنيت إنى كنت زرته ولم أحج )
*
فقال له : ( ما أقربك منه فما الذى يمنعك عن زيارته يا معاوية ولم تدع ذلك؟ )
فقال له : ( جعلت فداك لم أدر أن الأمر يبلغ هذا كله )
فقال عليه السلام : ( يا معاوية من يدعو لزواره فى السماء أكثر ممن يدعو لهم فى الارض . لا تدعه لخوف من أحد ، فمن تركه لخوف رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان بيده . أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن تصافحه الملائكة؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يأتي وليس عليه ذنب فيتبع به؟ أما تحب أن تكون غداً فيمن يصافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ )
*
[ مـنـذ أن كـنـا صـغـاراً رضـعـاً و حـسـيـنٌ كـان درس الأبـويـن * قـد خـلـقـنـا شـيـعـةً مـن طـيـنـةٍ عـجـنـت مـن نـحـر دامـي الـودجـيـن
وسـقـت طـيـنـتـنـا زيـنـبُ فـي مـأتـم الـحـزن بـأزكـى دمـعـتـيـن ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق