السبت، يناير 08، 2011

φ ذِي طِـفـلــةٌ فـي الـشَّــام φ


*
[ تـبـكـيـك عـيـنـي لا لأجـل مـثـوبـة ،، لـكـنـمـا عـيـنـي لأجـلـك بـاكـيـة ]
*
لم يتحمل ابن زياد بقاء الامام زين العابدين ونسائه في الكوفة ، خاف من أن يقلبوا قلوب أهل الكوفة عليه ، فيثورون في وجهه . فأرسلهم الى الطاغية يزيد بن معاوية . ومشت القافلة من جديد من الكوفة الي الشام .
*
أتى رجل شامي معه ابنته الصغيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وطلب منه أن يدعو الله لتتعافى ابنته ، فلقد عجز الأطباء عن مداواتها . فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابنه الحسين عليه السلام وقال له أن يدعو لهذه الطفلة . فوضع الحسين يده على رأسها ودعى الله أن يشفيها ويلبسها الصحة والعافية . فأحست الطفلة من فورها بالشفاء . ووقع الأب على رجلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلهما ويشكر الحسين . وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هدية لكي يقدمها للحسين ، فسأله الرسول عن مكان اقامته ، فقال له أنه من سكان حلب . فترقرقت الدموع في عيني الرسول الأعظم وقال : ( سوف يمر عليكم موكب سبايا نساء وأطفال جياع فقدموا لهم الطعام ) .
*
ومنذ ذاك اليوم وهذا الرجل يعد الطعام في كل ليلة وينتظر وصول هؤلاء الأطفال والسبايا . ومرت السنين تلو السنين ، وعندما وصلت قافلة أسارى آل هاشم الى تلك البلدة في طريقها الى الشام . أتت هذه الطفلة وكانت قد أصبحت امرأة ومعها جواري يحملن الطعام على رؤوسهن حتى وصلوا الى الأطفال والنساء فوضعوا الطعام أمامهم . فصاحت زينب : ( ارموا الطعام من يدكم ، إن الصدقة حرام علينا أهل البيت ) . فأتت المرأة وقصت قصتها على السيدة زينب عليها السلام ، حتى قالت لها : ( أُخيّه مات أبي وماتت أمي وأنا أنظر على قارعة الطريق ، ولم أرى مرور سبي نساء وأطفال إلاّ هؤلاءالأطفال )
فبكت السيدة زينب وانتحبت ، وتعجبت هذه المرأة من بكاء السيدة زينب فسألتها عن السبب . فقالت لها : ( هل تعرفين وجه الحسين اذا رأيته الآن؟ )
فأجابت بالايجاب ، فأخذتها السيدة زينب الى حيث رأس الحسين ، فلما نظرت إليه المرأة وعرفته صاحت : ( وا حسيناه وا مظلوماه )
*
[ مـذ رأيـت الـرأس مـرفـوع عـلـى الـرمـح مـشـالا
شـفّـنـي الـحـزن وفـاض الـدمـع مـن عـيـنـي وسـالا ]
*
لما أدخلت السبايا الى الشام ، جاء شيخ فدنا من نساء الحسين عليه السلام وعياله وقال :( الحمد لله الذي أهلككم وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم )
فقال له زين العابدين عليه السلام : ( يا شيخ هل قرأت القرآن؟ )
قال : ( نعم )
قال : ( فهل قرأت هذه الآية : { قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى }؟ )
*
قال : ( قد قرأت ذلك )
فقال له السجاد : ( فهل قرأت { وآت ذا القربى حقه }؟ )
فقال :( بلى )
فقال : ( فهل قرأت الآية : { واعلموا أن ما غنمت من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى }؟ )
فقال : ( بلى )
وقال : ( وهل قرأت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }؟ )
قال : ( بلى )
*
فقال عليه السلام : ( فنحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ )
فدهش الشيخ وقال : ( بالله عليكم إنكم هم؟ )
فقال عليه السلام : ( وحق جدنا رسول الله إنا لنحن هم )
*
فبكى الشيخ ورمى عمامته ثم رفع رأسه الى السماء وقال : ( اللهم اني ابرأ اليك من عدو آل محمد )
وسأل الله أن يتوب عليه بما صنع .
*
وخرج سهل بن سعد وكان صحابياً قد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع حديثه ، فلما توسط الناس رأى أن الشام قد تزينت بزينة ، وأن الدفوف والطبول تطرق فسأل الناس : ( يا قوم هل لكم بالشام عيد لا نعرفه؟ )
فقالوا : ( يا شيخ نراك غريبا ) فقال : ( أنا سهل بن سعد قد رأيت محمداً )
قالوا : ( يا سهل ما أعجب السماء لا تمطر دماً والأرض لا تنخسف بأهلها ) فقال : ( ولم ذاك ؟ )
قالوا : ( هذا رأس الحسين عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهدى من أرض العراق )
فسألهم عن أي باب يدخل فقالوا من باب الساعات فاتجه الى ذاك الباب ورأى فارساً بيده رمح عليه رأس أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن ورائه نسوة وأطفال . فدنى من احداهن وسألها : ( يا جارية من أنت؟ )
*
فقالت : ( أنا سكينة بنت الحسين )
فقلت لها : ( ألك حاجة إلي فأنا سهل بن سعد ممن رأى جدك وسمع حديثه )
قالت : ( يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر اليه ولا ينظروا الى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )
فدنى سهل من صاحب الرأس وقال : ( هل لك ان تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ )
قال : ( ما هي؟ )
فقال : ( تقدم الرأس أمام الحرم ) . ففعل ذلك
*
[ لـيـت الـقـيـود لـهـا لـسـان مـحـدث تـروي لنا مـا قـد خـفـى مـن أنة الـسـجـاد ]
*
ولما ادخلت النسوة قصر يزيد مع علي بن الحسين وهم مقرونون في الحبال وزين العابدين مغلول ووقفوا بين يديه وهم على تلك الحال ، قال له عليه السلام : ( ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رآنا على هذه الصفة؟ ) . فأمر يزيد بالحبال فقطعت وأمر بفك الغل عن الامام عليه السلام . ثم وضع رأس الحسين بطبق ووضع أمام يزيد ، وجعل ينكث ثنايا الحسين و، ليت شلت يمينه ، هو يضحك فرحاً وسروراً . وأجهشت السيدة زينب بالبكاء ، فبالأمس رأت طشت الحسن أخيها فيه أعضاؤه المفتتة جراء السم ، واليوم ترى طشتاً فيه رأس الحسين أخيها يهدى الى طاغية الشام . فبكت وأنت أنين المفجوعه الوالهة ، فبكى كل الحضور .
*
وأنشأ يزيد اللعين يقول :
*
ليـــت أشيـــــاخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلــــوا واستهــــلوا فــرحــاً *** ثم قــــالوا يــــا يـزيد لا تشــل
قد قتــــلنا القــرم من ساداتهم *** وعــــدلناه بــــبدر فـــاعتـــدل
لعــــبت هــــاشم بالمـــلك فــلا *** خــــبر جــــاء ولا وحي نــزل
لســــت من خـندف ان لم انتقم *** من بنــــي احمد ما كان فعـل
*
فقامت بنت المرتضى ، ودوى صدى صوتها يهز قصر اللعين ، وتزلزل من حروف خطبتها حيث قالت مخاطبة يزيد :
*
( الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه حيث يقول : { ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن } .
*
أظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى ، أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة ، وأن ذلك لعظم خطرك عند ه، فشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، تضرب أصدريك فرحاً ، وتنفض مذوريك مرحاً ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : { ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين }
*
أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك واماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي ، وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الازكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر الينا بالشنف والشنأن ، والإحن والأضغان ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم : لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل . منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأقة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك ، زعمت انك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ولتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت . اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حماتنا .
فوالله ما فريت الا جلدك ، ولا حززت الا لحمك ، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، ويلم شعثهم ، يأخذ بحقهم { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً ، وأضعف جندا .
ولئن جرت علي الدواهي يا يزيد مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى . ألا فالعجب كل العجب ، لقتل حزب الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، وتعفرها أمهات الفراعل ، ولئن اتخذتنا مغنما ، لنجدنا وشيكا مغرماً ، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد ، والى الله المشتكى وعليه المعول .
فكد كيدك، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك الا فند وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين والحمد لله رب العالمين ، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة ، انه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل )
*
وكان لخطبها الأثر البليغ على الناس ، فتجدد العزاء في الشام واتشحت بالسواد والبكاء .
*
وأمر يزيد لعنة الله بمنبر وخطيب ليخبر الناس بمساوئ الحسين وعلي‏عليهم السلام ، فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله و أثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين و أطنب في تقريظ معاوية و يزيد لعنهما الله ، فذكرهما بكل ‏جميل . فصاح به علي بن الحسين : ( ويلك أيها الخاطب اشتريت‏ مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار )
ثم قال عليه السلام : ( يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن رضا لله و لهؤلاء الجلساء أجر و ثواب )
فأبى يزيد عليه ‏ذلك ، فقال الناس : ( يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر ، وما قدر ما يحسن هذا الفتى؟ )
فقال : ( إنه من أهل ‏بيت قد زقوا العلم زقاً . صغيرهم جمرة لا تداس وكبيرهم علم لا يقاس! )
*
فأصر الناس عليه حتى سمح للامام ، فصعد الامام المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب . ثم قال :
*
( أيها الناس ، أُعطينا ستاً وفُضِّلنا بسبع ، أُعطينا : العلمَ والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين . وفُضِّلنا: بأنّ منّا النبيَّ المختار ، ومنّا الصدِّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد رسوله ، ومنّا سبطا هذه الأمّة ، ومنا مهديّها .
*
أيها الناس ، مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي . أنا ابنُ مكّةَ ومِنى ، أنا ابنُ زمزمَ والصَّفا ، أنا ابنُ مَن حَملَ الركن بأطراف الرِّدا ، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى ، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى ، أنا ابن خيرِ مَن طاف وسعى ، أنا ابنُ خير مَن حجّ ولبّى ، أنا ابنُ مَن حُمِل على البُراق في الهواء ، أنا ابن مَن أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابنُ مَن بلَغَ به جبرئيلُ إلى سِدرة المنتهى ، أنا ابنُ مَن دَنا فتدلّى ، فكان قابَ قوسَينِ أو أدنى ، أنا ابنُ مَن صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليلُ ما أوحى ، أنا ابن محمّدٍ المصطفى .
*
أنا ابنُ عليٍّ المرتضى ، أنا ابن مَن ضربَ خراطيمَ الخَلق حتى قالوا : لا إله إلاّ الله ، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين ، وطعن برمحين ، وهاجرَ الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وقاتلَ ببدرٍ وحُنَين ، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين . أنا ابن صالحِ المؤمنين ، ووارثِ النبيّين ، وقامعِ الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزينِ العابدين ، وتاجِ البكّائين ، وأصبرِ الصابرين ، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ رسول ربِّ العالمين .
أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتلِ المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهدِ أعداءه الناصبين ، وأفخرِ مَن مشى مِن قريشٍ أجمعين ، وأوّلِ مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأوّلِ السابقين ، وقاصمِ المعتدين ، ومُبيدِ المشركين ، وسهمٍ مِن مَرامي الله على المنافقين ، ولسانِ حكمةِ العابدين ، وناصرِ دِين الله ، ووليِّ أمرالله ، وبستانِ حكمة الله ، وعيبة علمه .
سَمحٌ سخيٌّ بهيّ ، بُهلولٌ زكيّ أبطحيّ ، رضيٌّ مِقدامٌ همام ، صابرٌ صوّام ، مهذَّبٌ قَوّام ، قاطعُ الأصلاب ، ومُفرِّق الأحزاب ، أربطُهم عِناناً ، وأثبتُهم جَناناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسدٌ باسل ، يَطحنُهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة ، وقَرُبت الأعنّة ، طَحْنَ الرَّحى ، ويذروهم فيها ذَرْوَ الريح الهشيم . ليثُ الحجاز، مكّيّ مدنيّ ، خَيفيٌّ عَقَبيّ ، بَدريٌّ أُحُديّ ، شَجَريٌّ مُهاجريّ ، مِن العرب سيّدُها ، ومِن الوغى ليثُها ، وارثُ المشعرَين ، وأبو السبطَين ، الحسن والحسين ، ذاك جَدّي عليُّ بن أبي طالب )
*
ثمّ قال:
( أنا ابن فاطمةَ الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، انا ابن بضعة الرسول ، أنا ابن خديجة الكبرى ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المحزوز الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتى قضى ، أنا ابن طريح كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى ، أنا ابن مَن حرمه من العراق إلى الشام تُسبى . أيّها الناس إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدى والعدل والتُقى فينا ، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا )
*
فلم يزل يقول : أنا أنا ، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشِيَ يزيدُ لعنه الله أن ينقلب الأمر عليه ، فأمر المؤذّنَ فقطع عليه الكلام . فلمّا قال المؤذّن : ( اللهُ أكبر ، الله أكبر )
قال عليّ عليه السلام : ( الله أكبر كبيراً ، ولاشيءَ أكبر من الله )
فلمّا قال : ( أشهد أن لا إله إلاّ الله )
*
قال عليه السلام : ( شَهِد بها شَعري وبَشَري ، ولحمي ودمي )
فلمّا قال المؤذّن : ( أشهد أنّ محمّداً رسول الله )
*
التفتَ مِن فوق المنبر إلى يزيد فقال : ( يا يزيد ، محمدٌ هذا جَدّي أم جَدُّك؟ فإن زعمتَ أنّه جَدُّك فقد كذبتَ وكفرت ، وإن قلت أنّه جَدّي فلِمَ قتلتَ عترته ؟! )
*
[ حـكـى عـن زيـنـب الـكـبـرى بـأم الـحـزن سـمّـاهـا
وأيـتـام بـلا مـأوى يـمـيـن الـظـلـم أدمـاهـا ]
*
ثم أمر يزيد بنساء الحسين وحبسهن مع الامام في خربة من خرائب الشام ، لا يقيهم من حر ولا برد . وكانت حرارة الشمس تصهرهم ، حتى تقشرت وجوههم وكانوا طول مدة اقامتهم ينوحون على الحسين عليه السلام .
أتى المنهال الى السجاد حينما كان خارجاً من الخربة فقال له : ( كيف أمسيت يابن رسول الله؟ )
فقال عليه السلام : ( أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته مشردين ، فإنا لله وإنا اليه راجعون )
*
كانت للحسين بنت صغيرة تسمى رقية وكان عمرها في تلك الواقعة ثلاث سنوات . وحين ودعت أباها الحسين سألته قائلة : ( أبه متى اللقاء؟ ) فقال لها أبوها : ( في الشام )
وكانت الطفلة طوال الطريفق من كربلاء الى الكوفة ومنها الى الشام تسأل عمتها زينب عن موعد وصولهم الى الشام . وفي مرة من المرات بعدما سألتها ، قالت لها كعبة الرزايا : ( بنية رقية مالك تسألين عن الشام؟ )
فقالت لها اليتيمة : ( عمة زينب عندما ودعت أبي الحسين سألته متى اللقاء فقال لي في الشام )
*
فتفطر قلب العقيلة عند سماعها لاسم الحسين . وفي خربة الشام ، كانت رقية نائمة فانتبهت من نومها فزعة وهي تبكي وتقول : ( ائتوني بوالدي وقرة عيني )
وكلما أراد اهل البيت اسكاتها ازدادت حزناً وبكاءً ، ولبكائها زاد وكثر وطال حزن أهل البيت فأخذوا في البكاء الشديد وقام الصياح ، فسمع اللعين يزيد صيحتهم وبكائهم ، فقال : ( ما الخبر؟ )
قيل له : ( أن بنت الحسين الصغيره الموجوده مع السبايا في الخربه ، رأت أباها في نومه ، فاستيقظت وهي تطلبه وتبكي وتصيح )
فقال: ( ارفعوا اليها راس أبيها وضعوه بين يديها تتسلى به! )
*
فأتوا بالرأس الشريف في طبق مغطى بمنديل ووضعوه بين يديها فقالت : ( ماهذا ؟ أنا طلبت أبي ولم أطلب الطعام )
فقالوا : ( هنا ابوكِ )
فرفعت المنديل ورأت رأس أبيها فرفعته وضمته الى صدرها وقالت : ( يا أبتاه من الذي خضبك بدمائك؟ يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟ يا أبتاه من الذي أيتمني على صغر سني ، يا أبتاه من للعيون الباكيات ، يا أبتاه من للضائعات الغريبات ، يا أبتاه من للشعور المنشورات ، يا أبتاه من بعدك واخيبتاه من بعدك وا غربتاه ، ليتني كنت لك الفداء ، يا أبتاه ليتني كنت قبل هذا اليوم عمياء ، يا أبتاه ليتني توسدت التراب ولم ارَ شيبك مخضباً بالدماء )
*
ثم وضعت فمها على فم ابيها الشهيد المظلوم وبكت حتى غشي عليها .
*
[ لـو كـنـت تـطـالـع عـيـنـي والـطـفـلـة فـوق جـبـيـنـي
مـاتـت بـيـن الـخـديـن دمـعـاً فـي عـيـن الله ]
*
فقال الامام زين العابدين عليه السلام : ( عمة زينب ارفعي اليتيمه من على رأس والدي فلقد فارقت روحها الدنيا )
فارتفع اصوات اهل البيت بالبكاء وتجدد العزاء .
وبينما كانت الغاسلة تغسل بدن رقية الطاهر ، توقفت قليلاً ونادت : ( من هي راعية الأسرى؟ )
فأتت السيدة زينب وسألتها عما تريد ، فقالت المرأة : ( إني أرى أن بدن هذه الطفلة الصغيرة مسوداً ، فأي داء كانت مبتلية به؟ )
فبكت زينب وقالت : ( إنها لم تكن مبتلاة ولكن اسود متنها من أثر الضرب بالسياط )
*
ودفنت السيدة رقية في الشام .
*
الــســلام عــلــيــكِ يــا ابــنــة الــحــســيــن الــشــهــيــد الــذبــيــح الــعــطــشــان الــمــرمّــل بــالــدمــاء ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــهــضــومــة ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــظــلــومــة ، الــســلام عــلــيــكِ يــا مــحــزونــة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق