الأحد، ديسمبر 19، 2010

:: الـضَّعـن حُـزنـاً سَـرى ::


*
[ سـجـيَّـةٌ لـي بـأنـكـم سـتـري رحـلـتُـم أسـفـاً وعـادتـكـم الـشـهـادة
وسُـبـيـنـا أسـفـا وهـل الأسـرُ لـنـا عـادة؟ ]

*
أجبر الزمان زينب على وداع أهلها ، وتركت الأعزاء مرميين على الثرى . وشال الضعن من كربلاء ، وأسارى آل هاشم يسيرون تحت لهيب الشمس ، يعبرون الصحاري والبراري قاصدين الكوفة ، أيديهم مغلولة الى الأعناق ، مقيدين بسلاسل وأشواك ، وعيونهم الملهوفة ترنو الى رأس الحبيب المعلق أمامهم ، ويغمرهم الحزن والأسى لفراق الأحبة . وحينما لاحت أسوار الكوفة من البعيد ، هاج بالسيدة زينب الحزن ، فهذه البلدة التي قد دخلت اليها في يوم من الأيام أميرة يقدمها أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام واخوتها الأقمار ، والآن تدخلها أسيرة ذليلة ، يقدمها الطغاة اللئام قاتلي ذرية الرسول .
*
وتذكرت العقيلة حادثة صارت لها عندما كانت تفسر القرآن للنساء في الكوفة ، وقد سمعها ولي الله تفسر كلمة { كهيعص } وأنبأها بأن حروف هذه الكلمة ترمز الى مصائب ورزايا كربلاء .
*
وكان أهل الكوفة قد خرجوا لرؤية هؤلاء الأسارى ، فلقد أعلنوا أن هؤلاء هم خوارج خرجوا على الخليفة يزيد المزعوم! وكان أتباع بني أمية يدقون الطبول وينفخون في الأبواق فرحاً بانتصارهم الكاذب!
وأخذ الناس يناولون الأطفال طعاماً ، بعض الخبز والتمر ، وأم كلثوم تصيح من ورائهم : ( يا أهل الكوفة إن الصدقة حرام علينا! )
*
وقامت تأخذ الطعام وترمي به على الأرض . فبكى أهل الكوفة لما عرفوا أن هؤلاء هم أهل بيت الرسالة ومهبط الوحي .
*
وكان رأس الحسين يقدم كل الرؤوس ، وهو رأس زهري قمري أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ولم تتخيل زينب أن تكون في هذا المشهد ، من الذل والهوان ، وهي العزيزة الكريمة . فلما رأت ذلك القمر أمامها أنشدت أبياتاً أليمه :
*
يـا هـلالاً لـمّـا اسـتـتـم كـمـالا غـالـه خـسـفـه فـأبـدى غـروبـا
مـا تـوهـمـتُ يـا شـقـيـق فـؤادي كـان هـذا مـقـدرا مـكـتـوبـا
يـا أخـي فـاطـم الـصغـيـرة كـلـمـهـا فـقـد كـاد قـلـبـهـا أن يـذوبـا
يـا أخـي قـلـبك الـشـفـيـق عـلـيـنـا مـالـه قـد قـسـى وصـار صـلـيـبـا
يـا أخـي لـو تـرى عـلـيـاً لـدى الأسـر مـع الـيـتـم لا يـطـيـق وجـوبـا
يـا أخـي ضـمـه إلـيـك وقـرّبـه وسـكِّـن فـؤاده الـمـرعـوبـا
مـا أذل الـيـتـيـم حـيـن يـنـادي بـأبـيـه ولا يـراه مـجـيـبـا
*

وبدأ أهل الكوفة ينهضون من سباتهم الطويل ، والتفتوا الى ما أغفلوا عنه ، أغفلوا عن نصرة أهل أكرم بيت من البرية . وبدأوا يرون جرائم بني أمية في حق أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة . فبكوا وشهقوا وذرفوا دموعاً لا تنتهي . فأومأت اخت الحسين الى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ، فاندفعت بخطبتها بطمأنينة نفس، وثبات جأش ، وشجاعة حيدرية ، سلام الله عليها :
*
( الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الاخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والعجب والكذب والشنف ، وملق الاماء ، وغمز الأعداء ، او كمرعى على دمنة ، او كقصة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون .
أتبكون وتنتحبون؟ اي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً ، وأنى ترحضون . قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ومدرة حجتكم ، ومنار محجتكم ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، وسيد شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون .
فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟
لقد جئتم شيئاً اداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدّاً! ولقد أتيتم بها خرقاء ، شوهاء كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربكم لبالمرصاد ) .

**
فصار الناس حيارى ، وكان وقع كلام الحوراء شديد على قلوبهم ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم .
وقال شيخ كبير في السن وهو يبكي : ( بأبي أنتم وأمي ، كهولكم خير الكهول وشبابكم خير شبان ونساؤكم خير نساء ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )

*

وخاطبها زين العباد قائلا : ( يا عمة اسكتي ، ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وأنتِ بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهّمة . إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر )

* *

[ أي مـصـاب قـد لـقـتـه أي جـرح قـد رأت
فـي الـحـزن فـرد لا تـسـاويـهـا عـيـون لو بـكـت ]

*

قال حذيم بن شريك الأسدي : ( ونظرت الى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ ولم أر والله خفرة قط أنطق منها كأنما تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ) .

*
وكان أهل الكوفة قد سمعوا كلام الامام علي عليه السلام وخطاباته ، وتأثروا بخطبه البليغة ، وهو سيد الفصحاء والبلغاء ، وعندما فقدوه لم يسمعوا كلاماً مثل كلامه قط ، وأتت زينب إليهم وجددت في مسامعهم كلام أبيها وبلاغته .
*
ثمّ ارتقى الإمام زين العابدين عليه السلام المنبر، فأومأ للناس بالسكوت ، وكان معتل الحال ، فأثنى على الله وحمده ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله ثمّ صلّى عليه وقال:
*
( أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنا ابن من انتُهكت حرمته ، وسُلبت نعمته ، وانتُهب ماله ، وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحلٍ ولا تَرات ، أنا ابن من قُتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .
أيّها الناس فأنشدكم الله ، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أُمّتي ) .
*
وخطبت اخته فاطمة الصغرى خطبة ، أحرقت حروفها قلوب أهل الكوفة ، حيث قالت :
*
(الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به ، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذحلٍ ولا تَرات .
اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه ، من أخذ العهود لوصيّه علي بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللهمّ فيك لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته اللهم للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك ، حتى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته فهديته إلى صراطٍ مستقيم .
*
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيتٍ ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا ، وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضّلنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً بيّناً ، فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقدٍ متقدّم قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ، ومكراً مكرتم ، والله خير الماكرين .

*
فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة { في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
تبّاً لكم ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذابٍ ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثمّ تُخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم ، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رجل مشيتم إلينا ، تبغون محاربتنا؟ والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على سمعكم وبصركم ، وسَوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة ، فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ، أيّ تَرات لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم ، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب جدّي ، وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخركم . بفِيك أيّها القائل الكثكث والأثلب ، افتخرت بقتل قومٍ زكّاهم الله ، وطهّرهم الله ، وأذهب عنهم الرجس ، فأكظم وأقعِ كما أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرئ ما كسب ، وما قدّمت يداه .
أحسدتمونا ويلاً لكم على ما فضّلنا الله؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )

*
فارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب ، وقالوا : ( حسبك يا ابنة الطيّبين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضرمت أجوافنا )
*
وتحدثت السيدة أم كلثوم بمثل ما تحدثوا به فضجّ الناس بالبكاء والنوح ، فلم يُرَ باكية وباكٍ أكثر من ذلك اليوم .
*
[ فـلـقـد أدخـلـتُ قـبـراً عـنـوة لابـن زيـاد
وعـلـي قـيـدوه إنـهـم شـر الـعـبـاد ]

*
أُدخل رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى القصر ، ووضع بين يدي عبيد الله ابن زياد والي الكوفة ، فأخذ يضرب الرأس الشريف بقضيب كان في يده ، وعليه علامات الفرح والسرور . وكان الى جانبه زيد بن أرقم وكان شيخاً كبيراً صحابيّاً ، فلمّا رآه يفعل ذلك بثنايا ابن رسول الله قال له : ( ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما ، عدداً لا أحصيه ) ، ثمّ انتحب باكياً . فقال له ابن زياد : ( أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله؟ والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ) . فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وذهب إلى منزله .
*
ولما دخل الأسارى قصر ابن زياد ، أخذ اللعين يتشمت فيهم ويضحك فرحاً وسروراً .
فأقبل على عقيلة الهاشميين فقال : ( الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم )
فقالت عليها السلام : ( الحمد لله الذي أكرمنا بنبيِّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وطهَّرَنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق ، وهو غيرنا ) .
*
فقال : ( كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ )
فقالت : ( ما رأيت الا جميلاً . هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا بن مرجانة )
*
فغضب اللعين وهمَّ أن يضربها ، فقال له عمرو بن حريث : ( إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها )
فقال لها ابن زياد لعنه الله : ( لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك )
فقالت أم المصائب : ( لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فلقد اشتفيت )
*
وجاء الى الامام العليل المريض ، فسأله : ( من أنت؟ )
فأجاب عليه السلام : ( أنا علي بن الحسين )
فقال : ( ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ )

فقال المفجوع بأخيه : ( كان لي أخ يُسمَّى علياً قتله الناس )
فقال ابن زياد : ( بل قتله الله )
*
فتلى السجاد الآية : { اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } فغضب ابن زياد لجرأة الإمام عليه السلام على الرد عليه ، فنادى جلاوزته : ( اِضربوا عنقه) . فتعلَّقت عمته زينب به ، وصاحت : ( يابن زياد ، حسبك من دمائنا ، والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه ) . فتراجع عن ذلك .
*
ولم يقف حقد ابن زياد وقساوته وأسلوبه الوحشي إلى حَدٍّ ، بل راح يطوف في اليوم الثاني برأس الحسين عليه السلام في شوارع الكوفة ، يُرهب أهلها ، ويتحدّى روح المعارضة والمقاومة فيها .
وقال زيد بن أرقم:
( مرّ به عليّ وهو على رمح ، وأنا في غرفةٍ لي ، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: { اَمْ حَسِبْتَ اَنَ اَصحابَ الْكَهْفِ وَالرّقيمِ كانوا مِنْ آياتِنا عَجَباً } ، وقف والله شعري وناديت : رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب )

*
وأمر ابن زياد بأسارى أهل البيت الى السجن .
*
[ أُمـرر عـلـى جـدث الـحـسـيـن وقـل لأعظـمـه الـزكـيـة ** يـا أعـظـمـاً لا زلـت من وطـفـاء سـاكـبـة رويـة
مـا لـذًّ عيـش بـعـد رضِّـك بـالـجـيـاد الأعـوجـيـة ]

*
لما خرجت نساء بني أسد الى الفرات ، مروا بأرض المعركة ، فرأوا أجساداً مقطعة مفرّقة عنها الأعضاء ، فنادوا برجالهم لكي يوارونها ، لكنهم وقفوا حائرين مذهولين ، فكيف يدفنون أجساداً بلا رؤوس؟ وكيف يعرفون هوياتهم! وبينما هم كذلك وقوف ، اذ أقبل عليهم رجل من بعيد ملثماً ، يمشي وهالات الحزن تحيط به من كل جانب ، خاف القوم فلعله أحد الأعداء ، فلما قرب ذلك الرجل أتى ورمى بنفسه على جسد الحسين فجعل يشمه ويقبله وتبلل لثامه من دموع عينيه ، ثم رفع رأسه وسأل القوم عن سبب مجيئهم ، فأبلغوه أنهم أرادوا دفن الأجساد لكنهم لم يعرفونها لأنها بلا رؤوس . وسألوه عمن يكون ، فقال : ( أنا ابن هذا الغريب ) وأشار الى جسد المولى أبي عبدالله ورفع لثامه . وخط لهم خطاً في الأرض وأشار عليهم بالدفن في هذا المكان ، وخط خطاً آخر في بقعة أخرى وحفروا فيها ، وحفروا حفرة لجثة واحدة .
*
وقال زين العابدين : ( أما الحفيرة الأولى ففيها أهل بيته ، وأما الحفيرة الثانية ففيها أصحابه ، وأما القبر المنفرد مما يلي الرأس الشريف فهو صاحبه حبيب بن مظاهر ) .
*
ولم يكد القوم يضربون في الأرض حتى يجدون قبراً محفوراً ، وهو ذاك الذي حفره النبي للحسين وأهل بيته وأصحابه ..
*
فمضى السجاد الى جسد أبيه يريد مواراته الثرى ، فأتى إليه القوم يريدون اعانته فقال لهم : ( إن معي من يعينني ) . فاحتارو ا فليس هناك غيرهم في هذه الأرض ، لكن أعينهم كانت لا ترى النبي والزهراء والامام علي عليهم السلام ، وملائكة قد احتشدت ، وكلهم يعين السجاد على دفن جسد المولى أبي عبدالله . فلما أنزله لحده ، وضع خده على نحر أبيه الطاهر وهو يبكي ويقول : ( طوبى لأرض تضمنت جسدك الشريف ، أما الدنيا فبعدك مظلمة وأما الآخرة فبنورك مشرقة . أما الحزن فسرمد وأما الليل فمسهد حتى يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت مقيم بها )
*
[ قـبـل أن تـمـضـي رضيـعـي خـذه مـن الـبـوغـاء
فـوق صـدري دعـه يـغـفـو قـد فـجـع الأشـيـاء ]

*
فسمع وريث الامامة صوتاً من نحر الحسين يقول له : ( ولدي ادفن رضيعي على صدري ) . فوضع زين العباد الرضيع على صدر والده . فخرج وبدأ يبحث شيئاً في الأرض ، فلما وجده أخذ يقبله وهو يشهق من البكاء ووضعها مع الجسد ، وكانت اصبع الحسين المقطوعة ، فلما أهل الرمال عليه ، خط القبر بأنامله وكتب : ( هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً )
*
ثم التفت الى القوم وسألهم : ( هل بقي أحد؟ ) فأجابوه : ( نعم يابن رسول الله ، بقي بطل مطروح حول المسناة ، كلما حملنا جانباً منه سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف والسهام )
*
فمضى الى النهر ولما رأى جسد عمه ، ساقيهم وكافلهم وحامل رايتهم ملقىً على الثرى بلا يدين ، انكب عليه يقبله ويبكي ويقول : ( عماه على الدنيا بعدك العفا ) . فدفنه وحده ولم يشرك معه أحد ، ودفن معه يدا العباس المقطوعتان . فلما فرغ توجه الى حيث أتى وغاب عن أبصارهم . وعندما رجع الى الكوفة كانت زينب تبحث عنه ، فاستقبلته متسائلة : ( أين كنت يابن أخي؟ )
*
فقال السجاد : ( عمة زينب عظم الله لك الأجر ، الآن فرغت من دفن والدي )
*
فبكت زينب أشد البكاء ، الى الآن جسد الحسين في العراء ، الى الآن بقي حشاشة الزهراء في الفلاة تصهره حرارة الشمس . وكان يوم دفن الحسين في الثالث عشر من المحرم .
وأقبلت الفاقدات ، كل واحدة منهن تسأل عن ولدها ، والسجاد يجيبهم وقلبه مفطور .
*
[ ويـلـي لتـلـك الـنـائبـات كأنـهـا جُمـعـت بـشـخـصـك كلـهـا يـا زيـنـة الـعـبّاد ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق