الجمعة، أكتوبر 22، 2010

( وفي الليلةِ الظَّلماء يُفتقد البَدر )

.
.
إن غاية كل والد وقرة عين كل والدة هي أن يريا ابنها يكبر ، ويحصل على أعلى الشهادات ، يتزوج ، ويزفه والده الى عروسه ، ويطبع قبلة على جبين أمه شاكراً على تربيتها ورعايتها ، ثم ترى ذريته الواحد بعد الاخر وتصبح معزتهم وحبهم من حبها لابنها ، وتسعد حين تراه سعيداً في حياته ، ورب بيت ناجح .. فتصبح راضية مسرورة لأن تعبها لم يضيع هباء منثوراً .. فولدها هو الطالب الذي تخرج من مدرستها وأخذ علومه منها ~
.
وتأمل كل أم بأن يرعاها ولدها حين تكبر ، وكما احتصن الوالد ولده يود لو يحتضنه ولده في شيخوخته .. فهذا جزاء الاحسان وهذا هو البر ~
.
هذه أماني الأبوين ، لكن ارادة الله فوق كل اراده ، وكما أعطاهما هذه الأمانة يأخذها حين يحين موعد استردادها ، فإنما الارواح أمانه من رب العباد الى عباده وعلينا بصيانه هذه الامانه وحفظها وردِّها الى صاحبها .. وهو الله سبحانه ~
.
حين يأخذ أمانته ، حين يخطف الموت الولد من حضن أمه ويرحل ، تنهار أحلامها الوردية وأماني الأب ، فبدلاً من أن يشيعهما الابن ، يشيعانه الى قبره ، وبدلاً من يُتم الابن تُثكل الأم ، وبعد أن سكن بجوارهما مده طويلة يتركانه وحيداً في ظلمة القبر .. يقضي لياليه بلا أب ولا أم ترعاه وتسهر على راحته ~
.
كم من الأسى والحزن يحل على قلب هذه الأم ، وهل يبقى لها قلب؟ بل فتات قلب محطم ، وظهر مكسور. ويبدأون بتغسيل الميت ، ذلك الجسد الهامد الذي طالما غسلته الأم وطهرته ، ورشته بأزكى العطور ، وألبسته أحلى الثياب ، تراه أمامها وقد غادرته الروح وهو في عمر الزهور ، يغادر الدنيا بعد أن قضى فيها سنين قليلة .. تاركاً اياها تعاني من جرح الفراق ~
.
وتطفأ شمعته ، وتظلم غرفته ، فيتلمس اخوته آثاره الباقية ، وذكراه في كل زاوية ، ورنين صوته وضحكاته في الأرجاء .. فهنا كان يجلس وهنا ينام ومن هذا الباب يخرج ومنه يدخل ~
.
ثم الصلاة ، ويسافر الأب بذكرياته الى يوم ولادة ابنه ، حين أخذه وأذن في أذنه ، أذان بلا ركوع ولا سجود .. والآن يصلون عليه بخمسة تكبيرات ~
.
ويحمل نعشه فوق الأكتاف ، فتتنزل ملائكة الرحمن ، وتشيع الجنازه مع المؤمنين ، وينادى صوت لا تسمعه أذن البشر ، إنه صوت المتوفى ، ينادي أن يتباطؤوا بالسير ولا يسرعوا في مواراته الى قبره حيث الوحده الأبدية ، ويرى دموع احبائه ونياحتهم عليه .. ويود لو يحتضنهم ويواسيهم ~
.
ويضعون النعش ، وينزلون الجسد الملفوف بالكفن الى حفرة عميقة حيث مكان اقامته الدائم ، ووقتها ، يبعدون أباه واخوته وأهله عن القبر ، ويتقدم البعيد ليهل عليه التراب ، فهذه اللحظه فوق طاقة الانسان ، لا يستطيع أب أن ينظر الى ولده وهو يدفن ، فهذا مالا يستطيع احتماله ، ولكي لا يقسو قلبه .. فهذه رحمة من رب العالمين له ومخافة عليه ~
.
تملؤ الحفرة بالتراب ، ويوضع عليه الشاهد مكتوباً به الاسم والعمر وتاريخ الوفاة ، كان زهرة في ربيع دنياه ، كان حبيباً للقلوب وقريباً من النبض ، كان صخبه وضحكه ولهوه يملأ الأفق ، والان هدوءه وسكونه مزعج ، ولكن سيبقى هدوءه هذا الى أبد الدهر ~
.
يتقدم المعزين للعزاء ، " عظم الله لك الأجر " .. " أتمنى أن تكون آخر الأحزان " .. " أطال الله في عمرك وحفظ لك عيالك الباقين " ، عبارات ترددت على أذني الأم ، الأب ، الأخت ، الأخ ، وهم في تلك اللحظه مشدوهين يتساءلون : هل حقاً رحل؟ هل حقاً لن نرى ظله مرة اخرى؟ وصوته سيختفي؟ .. فساعد الله تلك القلوب المفجوعة وألهمها الصبر على هذا الابتلاء ~
.
وتحوم روح المتوفى ، وتطير الى بيته ، هذا البيت الذي طالما أحس بالدفء بداخله ، كم يشتاق لفتح الباب والدخول فتتحول عيون الجالسين داخله نحو الباب ، يرون القادم ، كم يتمنى أن تسقط عينا أمه عليه ، كم يراها بائسة ، حزينة ، باكية ، يكاد الصبر أن ينفد منها ، وأباه الذي نكس رأسه ، وانحنى ظهره ، واخوته الباحثون عن بقاياه في كل مكان .. كم يتألم لفراق الأحبة ~
.
ثم تظل روحه في عالم الدنيا أربعين يوماً ، يودعها الوداع الأخير ، وتنتقل روحه في اليوم الموعود الى العالم الآخر .. ولسانه يتلو وصيته :
.
.
قُل لأمِّي لا تُعانِي ألَمَ الحُزنِ وهَزّاتِ الشُّعُـور
حينَما يُرفَعُ نَعشي وَسْط أغْلالِ القُبـور
وتًراهُ بأكُفِّ الخَلقِ يَسري ويَمُـور
ثمَّ خبِّرها وبلِّغْها سلامي في سُـرور
إنّني لا أبتغي ورداً بِقَبري أو زُهـور
إنّما أحْببتُ شيئاً في الجِراحاتِ يَثـور
هوَ أنْ تُلقى على قَبري مأساةُ الحُسَيْـن
...
قُل لأمِّي إنّني في عالَمِ الأرواحِ آنَسْتُ الخُلُـود
عاشِقٌ يَجلِسُ مِن حَوْلي أرْبابُ الصُّمـود
أندِبُ السِّبطَ وقد باركَ لي صَوْن العُهُـود
فاطْمَئِنّي أنَّ رُوحي في غَدٍ سَوْف تَجُـود
ليْلَةَ العَاشِرِ رادُوداً حُسَيْنِياً أعُـود
حينَما يَنطلِقُ المَوْكِبُ والأعْلامُ سُـود
سَتَرَيْني لاطِماً صَدري وأنعى يا حُسَيْـن
...
قُل لأمِّي إنّني في عالَمِ الفِردَوْسِ لا دُنيا المَنُـون
عِنْدَ ربِّ العَرشِ ضَيْفٌ قّرَّ بالآلِ العُيُـون
مُطمَئِنٌ هانِئٌ أحسَنتُ باللهِ الظُّنُـون
وجِوار المُصطَفَى تَنْعَمُ رُوحي بالسُّكُـون
مَعَ أهلِ البَيْتِ ما دُمتُ على العَهدْ ِأكُـون
قُلْ لها في العِشْقِ لا خَوفٌ ولا هُمْ يَحْزَنُـون
أنا حتّى داخِلَ القَبْرِ سأنعى وا حُسَيْـن

.
اللهم ارحم شابنا واغفرله وادخله واسع جنتك مع النبي وأهل بيته
وارحم شبابنا وموتانا وموتى المسلمين واغفر لهم وتجاوز عنهم
اللهم صبر قلوب ذويهم ومحبيهم ونزل عليهم السكينه والسلوى
وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين