الجمعة، ديسمبر 31، 2010

ᆻ هـذا الـفَـتـى الـسَّـجـاد سـرُّ الـوُجـود ᆻ


*
[ قـر
حـت جـفـونـك مـن قـذى وسـهـاد إن لـم تـفـض لـمـصـيـبـة الـسـجـاد ]

*
عاش وريث الامامة 57 سنة . قضى منها 35 سنة في البكاء والنحيب والونين على أبيه سيد الشهداء . لقب الامام بزين العابدين لكثرة تعبده لله عز وجل . ولقب بالسجاد لكثرة سجوده لخالقه تعالى . ولقب بالبكاء وتاج البكائين لكثرة بكائه على أبي عبدالله الحسين .

انهد ركنه ، وانكسر ظهره ، وانطفأ نور حياته وهو في الثالثة والعشرين من العمر ، حينما رأى أبيه وأهل بيته قتلى على ثرى الطفوف ، قد نزع السيف منهم الأرواح . وشهد بعدها ضياع أيتام أبيه وضياع عماته وذلهن في الأسر والسبي .
*
وكان الامام صائم نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، ويقول : ( كل يا مولاي )
فيقول : ( قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ) . ولا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه .

حتى قال له مولى له : ( جعلت فداك يا ابن رسول الله ، إني أخاف أن تكون من الهالكين )

قال عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله مالا تعلمون ثم إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة ) .
*
روي عن الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري أنّه قال : ( كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا جابر، يولد له مولود اسمه عليّ ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمّد ، فإن أنت أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام )

وكان محمد ابن الامام زين العابدين حاضراً في كربلاء ، وكان له من العمر ثلاث سنوات ، وكان محمد الباقر هو الامام من بعد أبيه زين العابدين ، وكان كأبيه عالماً فقيهاً ، عابداً زاهداً ، وريث علم الأنبياء والأوصياء .
*
كان طاووس اليماني في الكعبة يطوف اذ رأى علي بن الحسين عليه السلام يطوف من العشاء الى السحر ويتعبد ، فإذا لم يرى أحداً وعاد الحجاج الى منازلهم رمق السماء بطرفه وقال : ( الهي غادرت نجوم سماواتك وهجعت عيون أنامك وأبوابك مفتحات للسائلين جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد في عرصات القيامة ) .
ثم سمعه يبكي ويقول : ( وعزتك وجلالك ، ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما عصيتك اذ عصيتك وأنا بك شاك ، ولا بنكالك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولكن سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى عليّ فالآن من يستنقذني من عذابك وبحبل من أعتصم ان قطعت حبلك عني ، فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك ، اذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز؟ أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب . أما آن لي أن أستحي من ربي )
ثم بكى وأنشأ يقول :
*
أتـحـرقـنـي بـالـنـار يـا غـايـة الـمـنـى ،،، فـأيـن رجـائـي ثـم أيـن مـحـبـتـي
أتيــت بأعـمـال قـبـاح زريـة ،،، ومـا فـي الـورى خـلـق جـنـى كـجـنـايـتـي

*
ثم بكى وقال : ( سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص، وتتودد الى خلقك بحسن الصنيع كأن بك حاجة اليهم وأنت يا سيدي الغني عنهم ) .
فخر الى الأرض فدنى منه وجعل رأس الامام في حضنه ، ثم سالت دموعه على وجهه الشريف ، فاستوى جالساً وقال : ( من الذي شغلني عن ذكر ربي؟ )
فقال : ( يا بن رسول الله انا طاووس اليماني ماهذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ، فنحن العاصون الجانون . وأنت أبوك الحسين وأمك الزهراء وجدك رسول الله ) .
فالتفت اليه وقال: ( هيهات يا طاووس ! دع عنك حديث أبي وأمي وجدي فقد خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً وخلق النار لمن عصاه وأساء ولو كان سيداً قرشياً ألم تسمع قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسائلون }
*
وقد ترك الامام السجاد للبرية ارث عظيم ، وهي الصحيفة السجادية ، المليئة بالأدعية والمناجاة الخالصة لله سبحانه وتعالى . تتميز بفصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، وعلوّ مضامينها ، وما فيها من أنواع التذلّل لله والثناء عليه ، والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه . وترك أيضاً رسالة الحقوق ، وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان ، وحقوق نفسه عليه ، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج ، ثمّ يذكر حقوق الأفعال ، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي ، التي تبلغ خمسين حقّاً ، آخرها حق الذمّة .
*
كان حجَّاج بيت الله الحرام يرتدون لباساً واحداً هو لباس الإحرام ، وكانوا مشغولين بأعمال واحدة هي أعمال الحج ، وكانوا مستغرقين بأحاسيسهم الأخروية التي تشغلهم عن كل شخصية ومقام فكانوا بذلك سواسية لا يفرّق بينهم شيء . أما هشام بن عبد الملك ، الخليفة الأموي آنذاك ، فكان قد جلب معه الرجال والحشم ليحفظوا له أبّهته وفخامته ، وكان هؤلاء صاغرين ازاء عظمة الحجّ وسموّه المعنوي . كرَّر هشام محاولته اليائسة للمس الحجر ولكنه رجع خائباً لشدة الازدحام واجتماع الخلق ، فأمر بأن ينصب له عرش على مكان مرتفع حتى يقيّض له النظر إلى الحجيج وليملأ عينيه بتفرجه على هذا الاجتماع المهيب . وبينما هو وحاشيته على هذه الحال إذ شاهد رجلاً يعلو سيماءه التقوى والورع ، يغطي جسمه قميص أبيض مثل سائر الحجاج ، بدأ بالطواف حول الكعبة ثم توجه بخطوات مطمئنة يريد لمس الحجر الأسود ، فلما راه الناس انفرجوا قسمين وتنحّوا عنه هيبةً وإجلالاً . دهش الشاميّون لهذا المنظر العجيب ولم يستطيع أحد أن يمسك نفسه عن أن يسأل هشام قائلاً : ( من هذا يا أمير المؤمنين؟ )
فأجاب هشام : ( لا أعرفه )
والحقيقة أن هشاماً كان يعرفه حق المعرفة إلاَّ أنه قال ذلك حتى لا يرغب أهل الشام به . ولم يوجد من هو أشجع من الفرزدق الذي لم يبالِ بما سيلحقه من تشرّد وأذى إن هو أجاب ، فقال : ( أنا أعرفه! )
*
فقال الشامي : ( من هو يا أبا فراس؟ ) . فأنشأ الفرزدق قصيدته الغرَّاء في مدح الامام زين العابدين ، علي بن الحسين :
*
هـذا الـذي تـعـرف الـبـطـحـاء وطـأتـه والـبـيـت يـعـرفـه والـحـل والـحـرم
هـذا ابـن خـيـر عـبـاد الله كـلـهـم هـذا الـتـقـي الـنـقـي الـطـاهـر الـعـلـم
هـذا ابـن فـاطـمـة إن كـنـت جـاهـلـهُ بـجـدِّه أنـبـيـاء الله قـد خـتـمـوا
ولـيـس قـولـكَ هـذا بـضـائـرهِ الـعـرب تـعـرفُ مـن أنـكـرتَ والـعـجـم
*
فغضب هشام لسماع هذه القصيدة وقال للفرزدق : ( ألا قلت فينا مثلها؟ )

فقال الفرزدق : ( هات جداً كجده وأباً كأبيه وأماً كأمه حتى أقول فيك مثلها )

فأمر هشام بحبسه في عسفان بين مكة والمدينة فحُبس ولكنه لم يأبه بذلك ، فلما بلغ خبره علي بن الحسين بعث إليه باثني عشر الف درهم وقال : ( اعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به )

فردها الفرزدق وقال : ( يا ابن رسول الله ما قلت فيك الذي قلت إلاَّ غضباً لله ورسوله وما كنت أريد أن أرزق عليه شيئاً )
*
فردَّها الامام ثانية إليه وقال : ( بحقي عليك ، تقبَّلها فقد رأى الله مكانك وعلم نيّتك )

عند ذلك قبلها الفرزدق .
*
وله أقوال كثيرة سلام الله عليه ، وهي حروف تنير للانسان طريقه ودربه ، منها :
قال عليه السلام : ( أصبحت مطلوباً بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي بالسُنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد ، فأنا بين هذه الخصال مطلوب )
*
[ الــســلام عــلــيــك يــا بــحــر الــنــدى
الــســلام عــلــيــك يــا بــدر الــدجــى ]

*
وكان عليه السلام رؤوفاً بالفقراء والمحتاجين ، حنوناً على الأيتام والمساكين ، وكان يحمل الجراب على ظهره في كل ليلة ويطوف بها على بيوت الفقراء يطعمهم . وكان الناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل .

وقال بعض أهل المدينة : ( ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين )
*
ولما استشهد الامام سلام الله عليه ، وحين غسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره وقالوا : ( ما هذا؟ )

فقيل : ( كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة )
*
[ هـل ذاق طـعـم الـزاد طـول حـياتـه إلا ويـمـزج دمـعـه بـالـزاد ]
*
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ( البكّاؤون خمسة : آدم و يعقوب و يوسف و فاطمة الزهراء و علي بن الحسين السجاد عليهم السلام )
*
صحب الامام أحد أصحابه ذات يوم في الليل الى الصحراء ، ورأى الامام يعبد الله ويسبحه ويقدسه في ظلمة الليل ، وهوى الى السجود وبكى بكاءً شديداً ، فلما رفع رأسه قال له : ( يا مولاي أما آن لحزنك أن ينقضي؟ ولبكائك أن يقل؟ )

فأجابه : ( ويحك ، إن يعقوب بن إسحاق النبي كان له اثنى عشر ابناً ، فغيب الله سبحانه واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم والهم وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، أفترى حزنهم يذهب من قلبي؟ )
*
وكان عليه السلام لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه وأسرته في كربلاء ، وكان يطلب المناسبة ويبحث عنها ليحدث بما جرى على أهل بيته ، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماء قبل ذبحها ، وعندما يسمعهم يقولون : ( إنا لا نذبح حيواناً قبل أن نسقيه ولو قليلاً من الماء ) .

*

فيبكي ويقول : ( أما أبي الحسين فلقد ذبح غريباً عطشاناً ) . فيبكون لبكائه حتى ترتفع الأصوات بالنحيب ويجتمع الناس عليه
*
وعندما دس له الأموي اللعين الوليد بن الحكم السم في طعامه ، وسرى في جسده الطاهر ، اجتمع عليه عياله يوصيهم . وأعطى مقاليد الامامة لابنه محمد الباقر ، وأوصاه : ( بني محمد لا تضيع بنتاً من بناتي بعد عيني )
*
واختنقت عبرات الامام ، ورأى مشهد ضياع عماته وأخواته بعد عين الحسين ، والخوف يعلوهن والرعب في كل ذرة من جسدهن .
*
وانطفأ نور العباد في الأرض ، وغاب العابد البكاء ، ورحل خير البرية في الـخامس والعشرين من محرم لعام 95 للهجرة . ودفن جسده الطاهر في البقيع الغرقد عند قبر عمه الحسن المجتبى عليه السلام .
*
فـالـسـلام عـلـيـك يـا زيـن الـعـابـديـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا زيـن الـمـتـهـجـديـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا إمـام الـمـتـقـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يا ولي المسلمين ، الـسـلام عـلـيـك يـا قـرة عـيـن الـنـاظـريـن والـعـارفـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا خـلـف الـسـابـقـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا ولـي الـوصـيـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا خـازن وصـايـا الـمـرسـلـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا ضـوء الـمـسـتـوحـشـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا نـور الـمـجـتـهـديـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا سـراج الـمـرتـاضـيـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا فـخـر الـمـتـعـبـديـن ، الـسـلام عـلـيـك يـا مـصـبـاح الـعـالـمـيـن .

الأحد، ديسمبر 19، 2010

:: الـضَّعـن حُـزنـاً سَـرى ::


*
[ سـجـيَّـةٌ لـي بـأنـكـم سـتـري رحـلـتُـم أسـفـاً وعـادتـكـم الـشـهـادة
وسُـبـيـنـا أسـفـا وهـل الأسـرُ لـنـا عـادة؟ ]

*
أجبر الزمان زينب على وداع أهلها ، وتركت الأعزاء مرميين على الثرى . وشال الضعن من كربلاء ، وأسارى آل هاشم يسيرون تحت لهيب الشمس ، يعبرون الصحاري والبراري قاصدين الكوفة ، أيديهم مغلولة الى الأعناق ، مقيدين بسلاسل وأشواك ، وعيونهم الملهوفة ترنو الى رأس الحبيب المعلق أمامهم ، ويغمرهم الحزن والأسى لفراق الأحبة . وحينما لاحت أسوار الكوفة من البعيد ، هاج بالسيدة زينب الحزن ، فهذه البلدة التي قد دخلت اليها في يوم من الأيام أميرة يقدمها أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام واخوتها الأقمار ، والآن تدخلها أسيرة ذليلة ، يقدمها الطغاة اللئام قاتلي ذرية الرسول .
*
وتذكرت العقيلة حادثة صارت لها عندما كانت تفسر القرآن للنساء في الكوفة ، وقد سمعها ولي الله تفسر كلمة { كهيعص } وأنبأها بأن حروف هذه الكلمة ترمز الى مصائب ورزايا كربلاء .
*
وكان أهل الكوفة قد خرجوا لرؤية هؤلاء الأسارى ، فلقد أعلنوا أن هؤلاء هم خوارج خرجوا على الخليفة يزيد المزعوم! وكان أتباع بني أمية يدقون الطبول وينفخون في الأبواق فرحاً بانتصارهم الكاذب!
وأخذ الناس يناولون الأطفال طعاماً ، بعض الخبز والتمر ، وأم كلثوم تصيح من ورائهم : ( يا أهل الكوفة إن الصدقة حرام علينا! )
*
وقامت تأخذ الطعام وترمي به على الأرض . فبكى أهل الكوفة لما عرفوا أن هؤلاء هم أهل بيت الرسالة ومهبط الوحي .
*
وكان رأس الحسين يقدم كل الرؤوس ، وهو رأس زهري قمري أشبه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ولم تتخيل زينب أن تكون في هذا المشهد ، من الذل والهوان ، وهي العزيزة الكريمة . فلما رأت ذلك القمر أمامها أنشدت أبياتاً أليمه :
*
يـا هـلالاً لـمّـا اسـتـتـم كـمـالا غـالـه خـسـفـه فـأبـدى غـروبـا
مـا تـوهـمـتُ يـا شـقـيـق فـؤادي كـان هـذا مـقـدرا مـكـتـوبـا
يـا أخـي فـاطـم الـصغـيـرة كـلـمـهـا فـقـد كـاد قـلـبـهـا أن يـذوبـا
يـا أخـي قـلـبك الـشـفـيـق عـلـيـنـا مـالـه قـد قـسـى وصـار صـلـيـبـا
يـا أخـي لـو تـرى عـلـيـاً لـدى الأسـر مـع الـيـتـم لا يـطـيـق وجـوبـا
يـا أخـي ضـمـه إلـيـك وقـرّبـه وسـكِّـن فـؤاده الـمـرعـوبـا
مـا أذل الـيـتـيـم حـيـن يـنـادي بـأبـيـه ولا يـراه مـجـيـبـا
*

وبدأ أهل الكوفة ينهضون من سباتهم الطويل ، والتفتوا الى ما أغفلوا عنه ، أغفلوا عن نصرة أهل أكرم بيت من البرية . وبدأوا يرون جرائم بني أمية في حق أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة . فبكوا وشهقوا وذرفوا دموعاً لا تنتهي . فأومأت اخت الحسين الى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ، فاندفعت بخطبتها بطمأنينة نفس، وثبات جأش ، وشجاعة حيدرية ، سلام الله عليها :
*
( الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الاخيار ، أما بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر ، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ، ألا وهل فيكم الا الصلف والنطف ، والعجب والكذب والشنف ، وملق الاماء ، وغمز الأعداء ، او كمرعى على دمنة ، او كقصة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون .
أتبكون وتنتحبون؟ اي والله فابكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها ابداً ، وأنى ترحضون . قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ومدرة حجتكم ، ومنار محجتكم ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، وسيد شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون .
فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟
لقد جئتم شيئاً اداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هدّاً! ولقد أتيتم بها خرقاء ، شوهاء كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون . فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربكم لبالمرصاد ) .

**
فصار الناس حيارى ، وكان وقع كلام الحوراء شديد على قلوبهم ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم .
وقال شيخ كبير في السن وهو يبكي : ( بأبي أنتم وأمي ، كهولكم خير الكهول وشبابكم خير شبان ونساؤكم خير نساء ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )

*

وخاطبها زين العباد قائلا : ( يا عمة اسكتي ، ففي الباقي من الماضي اعتبار ، وأنتِ بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهّمة . إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر )

* *

[ أي مـصـاب قـد لـقـتـه أي جـرح قـد رأت
فـي الـحـزن فـرد لا تـسـاويـهـا عـيـون لو بـكـت ]

*

قال حذيم بن شريك الأسدي : ( ونظرت الى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ ولم أر والله خفرة قط أنطق منها كأنما تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ) .

*
وكان أهل الكوفة قد سمعوا كلام الامام علي عليه السلام وخطاباته ، وتأثروا بخطبه البليغة ، وهو سيد الفصحاء والبلغاء ، وعندما فقدوه لم يسمعوا كلاماً مثل كلامه قط ، وأتت زينب إليهم وجددت في مسامعهم كلام أبيها وبلاغته .
*
ثمّ ارتقى الإمام زين العابدين عليه السلام المنبر، فأومأ للناس بالسكوت ، وكان معتل الحال ، فأثنى على الله وحمده ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله ثمّ صلّى عليه وقال:
*
( أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، أنا ابن من انتُهكت حرمته ، وسُلبت نعمته ، وانتُهب ماله ، وسُبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذحلٍ ولا تَرات ، أنا ابن من قُتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .
أيّها الناس فأنشدكم الله ، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أُمّتي ) .
*
وخطبت اخته فاطمة الصغرى خطبة ، أحرقت حروفها قلوب أهل الكوفة ، حيث قالت :
*
(الحمد لله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به ، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذحلٍ ولا تَرات .
اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه ، من أخذ العهود لوصيّه علي بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقّه ، المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة ، طيّب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور المذاهب ، لم تأخذه اللهمّ فيك لومة لائم ، ولا عذل عاذل ، هديته اللهم للإسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك ، حتى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته فهديته إلى صراطٍ مستقيم .
*
أمّا بعد يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء ، فإنّا أهل بيتٍ ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا ، وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ، ووعاء فهمه وحكمته ، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته ، وفضّلنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً بيّناً ، فكذّبتمونا وكفّرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً ، وأموالنا نهباً ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، كما قتلتم جدّنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقدٍ متقدّم قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم، افتراءً على الله ، ومكراً مكرتم ، والله خير الماكرين .

*
فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ، ونالت أيديكم من أموالنا ، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة ، والرزايا العظيمة { في كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
تبّاً لكم ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأنّ قد حلّ بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذابٍ ، ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثمّ تُخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين .
ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم ، وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأيّة رجل مشيتم إلينا ، تبغون محاربتنا؟ والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطُبع على أفئدتكم ، وخُتم على سمعكم وبصركم ، وسَوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة ، فأنتم لا تهتدون .
فتبّاً لكم يا أهل الكوفة ، أيّ تَرات لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم ، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه علي بن أبي طالب جدّي ، وبنيه وعترته الطيّبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخركم . بفِيك أيّها القائل الكثكث والأثلب ، افتخرت بقتل قومٍ زكّاهم الله ، وطهّرهم الله ، وأذهب عنهم الرجس ، فأكظم وأقعِ كما أقعى أبوك ، فإنّما لكلّ امرئ ما كسب ، وما قدّمت يداه .
أحسدتمونا ويلاً لكم على ما فضّلنا الله؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )

*
فارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب ، وقالوا : ( حسبك يا ابنة الطيّبين ، فقد أحرقت قلوبنا ، وأنضجت نحورنا ، وأضرمت أجوافنا )
*
وتحدثت السيدة أم كلثوم بمثل ما تحدثوا به فضجّ الناس بالبكاء والنوح ، فلم يُرَ باكية وباكٍ أكثر من ذلك اليوم .
*
[ فـلـقـد أدخـلـتُ قـبـراً عـنـوة لابـن زيـاد
وعـلـي قـيـدوه إنـهـم شـر الـعـبـاد ]

*
أُدخل رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى القصر ، ووضع بين يدي عبيد الله ابن زياد والي الكوفة ، فأخذ يضرب الرأس الشريف بقضيب كان في يده ، وعليه علامات الفرح والسرور . وكان الى جانبه زيد بن أرقم وكان شيخاً كبيراً صحابيّاً ، فلمّا رآه يفعل ذلك بثنايا ابن رسول الله قال له : ( ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ، فو الله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هاتين الشفتين يقبلهما ، عدداً لا أحصيه ) ، ثمّ انتحب باكياً . فقال له ابن زياد : ( أبكى الله عينيك ، أتبكي لفتح الله؟ والله لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك ) . فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وذهب إلى منزله .
*
ولما دخل الأسارى قصر ابن زياد ، أخذ اللعين يتشمت فيهم ويضحك فرحاً وسروراً .
فأقبل على عقيلة الهاشميين فقال : ( الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم )
فقالت عليها السلام : ( الحمد لله الذي أكرمنا بنبيِّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وطهَّرَنا من الرجس تطهيراً إنما يفتضح الفاجر ويكذب الفاسق ، وهو غيرنا ) .
*
فقال : ( كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ )
فقالت : ( ما رأيت الا جميلاً . هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم , وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك امك يا بن مرجانة )
*
فغضب اللعين وهمَّ أن يضربها ، فقال له عمرو بن حريث : ( إنها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها )
فقال لها ابن زياد لعنه الله : ( لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك )
فقالت أم المصائب : ( لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فإن كان هذا شفاؤك فلقد اشتفيت )
*
وجاء الى الامام العليل المريض ، فسأله : ( من أنت؟ )
فأجاب عليه السلام : ( أنا علي بن الحسين )
فقال : ( ألم يقتل الله علي بن الحسين؟ )

فقال المفجوع بأخيه : ( كان لي أخ يُسمَّى علياً قتله الناس )
فقال ابن زياد : ( بل قتله الله )
*
فتلى السجاد الآية : { اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } فغضب ابن زياد لجرأة الإمام عليه السلام على الرد عليه ، فنادى جلاوزته : ( اِضربوا عنقه) . فتعلَّقت عمته زينب به ، وصاحت : ( يابن زياد ، حسبك من دمائنا ، والله لا أفارقه ، فإن قتلته فاقتلني معه ) . فتراجع عن ذلك .
*
ولم يقف حقد ابن زياد وقساوته وأسلوبه الوحشي إلى حَدٍّ ، بل راح يطوف في اليوم الثاني برأس الحسين عليه السلام في شوارع الكوفة ، يُرهب أهلها ، ويتحدّى روح المعارضة والمقاومة فيها .
وقال زيد بن أرقم:
( مرّ به عليّ وهو على رمح ، وأنا في غرفةٍ لي ، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: { اَمْ حَسِبْتَ اَنَ اَصحابَ الْكَهْفِ وَالرّقيمِ كانوا مِنْ آياتِنا عَجَباً } ، وقف والله شعري وناديت : رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب )

*
وأمر ابن زياد بأسارى أهل البيت الى السجن .
*
[ أُمـرر عـلـى جـدث الـحـسـيـن وقـل لأعظـمـه الـزكـيـة ** يـا أعـظـمـاً لا زلـت من وطـفـاء سـاكـبـة رويـة
مـا لـذًّ عيـش بـعـد رضِّـك بـالـجـيـاد الأعـوجـيـة ]

*
لما خرجت نساء بني أسد الى الفرات ، مروا بأرض المعركة ، فرأوا أجساداً مقطعة مفرّقة عنها الأعضاء ، فنادوا برجالهم لكي يوارونها ، لكنهم وقفوا حائرين مذهولين ، فكيف يدفنون أجساداً بلا رؤوس؟ وكيف يعرفون هوياتهم! وبينما هم كذلك وقوف ، اذ أقبل عليهم رجل من بعيد ملثماً ، يمشي وهالات الحزن تحيط به من كل جانب ، خاف القوم فلعله أحد الأعداء ، فلما قرب ذلك الرجل أتى ورمى بنفسه على جسد الحسين فجعل يشمه ويقبله وتبلل لثامه من دموع عينيه ، ثم رفع رأسه وسأل القوم عن سبب مجيئهم ، فأبلغوه أنهم أرادوا دفن الأجساد لكنهم لم يعرفونها لأنها بلا رؤوس . وسألوه عمن يكون ، فقال : ( أنا ابن هذا الغريب ) وأشار الى جسد المولى أبي عبدالله ورفع لثامه . وخط لهم خطاً في الأرض وأشار عليهم بالدفن في هذا المكان ، وخط خطاً آخر في بقعة أخرى وحفروا فيها ، وحفروا حفرة لجثة واحدة .
*
وقال زين العابدين : ( أما الحفيرة الأولى ففيها أهل بيته ، وأما الحفيرة الثانية ففيها أصحابه ، وأما القبر المنفرد مما يلي الرأس الشريف فهو صاحبه حبيب بن مظاهر ) .
*
ولم يكد القوم يضربون في الأرض حتى يجدون قبراً محفوراً ، وهو ذاك الذي حفره النبي للحسين وأهل بيته وأصحابه ..
*
فمضى السجاد الى جسد أبيه يريد مواراته الثرى ، فأتى إليه القوم يريدون اعانته فقال لهم : ( إن معي من يعينني ) . فاحتارو ا فليس هناك غيرهم في هذه الأرض ، لكن أعينهم كانت لا ترى النبي والزهراء والامام علي عليهم السلام ، وملائكة قد احتشدت ، وكلهم يعين السجاد على دفن جسد المولى أبي عبدالله . فلما أنزله لحده ، وضع خده على نحر أبيه الطاهر وهو يبكي ويقول : ( طوبى لأرض تضمنت جسدك الشريف ، أما الدنيا فبعدك مظلمة وأما الآخرة فبنورك مشرقة . أما الحزن فسرمد وأما الليل فمسهد حتى يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت مقيم بها )
*
[ قـبـل أن تـمـضـي رضيـعـي خـذه مـن الـبـوغـاء
فـوق صـدري دعـه يـغـفـو قـد فـجـع الأشـيـاء ]

*
فسمع وريث الامامة صوتاً من نحر الحسين يقول له : ( ولدي ادفن رضيعي على صدري ) . فوضع زين العباد الرضيع على صدر والده . فخرج وبدأ يبحث شيئاً في الأرض ، فلما وجده أخذ يقبله وهو يشهق من البكاء ووضعها مع الجسد ، وكانت اصبع الحسين المقطوعة ، فلما أهل الرمال عليه ، خط القبر بأنامله وكتب : ( هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً )
*
ثم التفت الى القوم وسألهم : ( هل بقي أحد؟ ) فأجابوه : ( نعم يابن رسول الله ، بقي بطل مطروح حول المسناة ، كلما حملنا جانباً منه سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف والسهام )
*
فمضى الى النهر ولما رأى جسد عمه ، ساقيهم وكافلهم وحامل رايتهم ملقىً على الثرى بلا يدين ، انكب عليه يقبله ويبكي ويقول : ( عماه على الدنيا بعدك العفا ) . فدفنه وحده ولم يشرك معه أحد ، ودفن معه يدا العباس المقطوعتان . فلما فرغ توجه الى حيث أتى وغاب عن أبصارهم . وعندما رجع الى الكوفة كانت زينب تبحث عنه ، فاستقبلته متسائلة : ( أين كنت يابن أخي؟ )
*
فقال السجاد : ( عمة زينب عظم الله لك الأجر ، الآن فرغت من دفن والدي )
*
فبكت زينب أشد البكاء ، الى الآن جسد الحسين في العراء ، الى الآن بقي حشاشة الزهراء في الفلاة تصهره حرارة الشمس . وكان يوم دفن الحسين في الثالث عشر من المحرم .
وأقبلت الفاقدات ، كل واحدة منهن تسأل عن ولدها ، والسجاد يجيبهم وقلبه مفطور .
*
[ ويـلـي لتـلـك الـنـائبـات كأنـهـا جُمـعـت بـشـخـصـك كلـهـا يـا زيـنـة الـعـبّاد ]

الجمعة، ديسمبر 17، 2010

● سبـايـا بـأكـوار الـمـطـايـا حـواسِـراً ●


*

[ أشـهـد أن دمـك سـكـن الـخـلـد ، واقـشـعـرت لـه أظـلـة الـعـرش
وبـكـى لـه جـمـيـع الـخـلائـق ]
*
كانت زينب ولم يبق غيرها ، المحامي والكفيل حين غاب المحامي والكفيل ، في ليلة الحادي عشر وبعدها من الليالي . كانت ملجأ للأيتام والأمهات الثكلى ، وهي الغريبة الثكلى المفجوعة بأبنائها والفاقدة لاخوتها وليوث عرينها . ورغم ثقل تلك المصائب ومرارتها ، ظلت جبلاً شامخاً لا يهتز مهما عصفت به الرياح . جمعت النساء ولملمت شمل الأيتام الضائعة الهائمة على وجهها في الصحراء ، رغم الأشواك التي كانت تدمي قدماها ، ورغم حرارة التراب ، ورغم قلبها الذي يحترق من الآلام التي أصابتها . وهي المدافعة بجسدها عن زين العابدين العليل حين أراد الأشرار أن يقتلوه ، ووقفت أمامهم بشجاعة اللبوة التي تحمي عيالها . أراد اللعناء أن يطفئوا صوت الحق ، ولكن هيهات أن ينطفئ وشعلة زينب ما تزال تنبض بالحياة ، فالحسين زينب وزينب هي الحسين ، روحاً في جسدين .
*
بعد أن نهبوا خيام آل الرسول وسلبوا النساء ، وأرعبوا قلوب الطاهرات ، صاح الأعداء : ( أوطئوا بالخيل صدر الحسين ) . فهجمت الخيل على ذلك الجسد الطعين ، قطيع الرأس والاصبع ، سليب الرداء ، وارتقت على صدره الشريف وداسته بحوافرها حتى طحنت عظامه كلها وتفتت جسده الطاهر . واحتزوا رؤوس جميع أصحاب الامام وأهل بيته ، حتى رأس الرضيع حزوه ورفعوه عالياً فوق الرمح ، فلقد وعد ابن زياد بجائزة قيمة عن كل رأس ، فبئس ما صنعت أيديهم وتباً لهم .
*
أوكلها حفيد الرسالة بحماية الأيتام وحفظهم بعد رحيله . ولكنها فقدت اثنان من الصغار فأخذت تبحث عنهم مع أم كلثوم وسكينة ، فلما وجدوهما رأوهما ميتتان من العطش . ذهب لعين الى عمر بن سعد وقال : ( يابن سعد أما الحسين فقتلناه وأما الصغار فبدأت تموت من الظمأ ) . فأمر ابن سعد جنوده أن يملؤوا القرب بالماء ويذهبوا بها للنساء والأطفال . وضعوا الماء أمام أكبر امرأة فأشاحت بوجهها عنه ، فكيف تشرب وقد ذبح ابن رسول الله عطشاناً . مروا به على جميع النساء والأطفال فلم تأخذ واحدة منهن الماء ، فهن لا يردن الماء إلا من قربة عمهم أبي الفضل عليه السلام . أخذت طفلة صغيرة الماء بكلتا يديها وقامت تنظر فيه ، حدق فيها الجميع ينظرون ماذا تفعل . فجرت ناحية الميدان وعمتها زينب تلحق بها ، فخاطبتها قائلة : ( عمة زيب لقد سمعت أبي يقول : وحق جدي إني لعطشان . وأنا أريد أن أسقيه الماء قبل أن يموت من العطش ) . فبكت السيدة زينب وأخبرت اليتيمة بوفاة أبيها الحسين عطشان ، فرمت الطفلة الماء من يدها وسال على الأرض ووضعت رأسها في حجر عمتها وأجهشت بالبكاء .
*
جمعوا النساء في خيمة واحدة نصفها محروق ، وكانت زينب تنادي بالأسماء واحدة واحدة بين الحين والآخر حتى تتأكد من وجودهن . وفي مرة حين وصلت الى اسم زوجة الحسين نادت : ( رباب .. يا رباب ) ، لم تجبها ، ( يا أم عبدالله ) ، لم تكن موجودة في الخيمة . فأسرعت أسيرة الأحزان الى الخارج تبحث عنها ، فهذه عزيزة قلب الحسين ، سمعت صوت نحيب في الصحراء يقطع القلوب . اتجهت ناحية الصوت فرأت الرباب جالسة وفي حجرها رضيعها عبدالله وهي تناديه : ( ولدي لقد در اللبن في صدري ) . ترجوه أن يصحو ويروي عطشه ، أن يفتح تلك العينين اللتان خطفتا روح الأم حين أغلقتا .
*
أرجعتها زينب الى الخيمة ، فاتجهت الى مهد عبدالله الرضيع ، تهز ذلك المهد وهو يئن حنيناً الى رضيعه .
*
[ سـلامٌ عـلـى الـقـلـب الـكـبـيـر وصـبـره بـمـا قـد جـرت حـزنـاً لـه الأدمـع الـحـمـر ]
*
عندما أرخى الليل ستاره وهدأت حوافر الخيل ، وحان وقت صلاة الليل . فرشت الحوراء سجادتها وهي تستذكر أبا عبدالله ، ففي مثل هذا الوقت في الليلة الماضية كان صوته وأصوات أصحابه تملأ الأفق بمناجاتهم وترتيلهم للقرآن الكريم ، والآن كم هو موحش الليل بسكونه وهدوئه . لم تنسى الحسين في صلاتها فهو الذي أوصاها : ( أخية زينب لا تنسيني في صلاة الليل ) . باكية العينين ، مفطورة الفؤاد ، كسيرة القلب .
رآها زين العباد فقال : ( عمة زينب ما رأيتك قط تصلين من جلوس إلا في هذه الليلة! )
فقالت لابن أخيها : ( لا تلمني يابن أخي فإن الجري وراء الأطفال في الصحراء قد أدمى قدماي . والأمر الآخر إن مصيبة قتل أبيك الحسين كسرت ظهري ) .
*
ما أشد أساك يا زينب ولوعتك . كانت زينب وريثة أحزان الزهراء . فلم يشهد التاريخ أخت مفجوعة بأخيها مثلها . احدودب ظهرها وشاب شعرها من هذا المقتل الدامي . وتخرج ابنة علي بآلامها أحزانها ، فمن هو سلوتها بعد الحسين؟ من إليه تبث شكواها وهمها؟ ليس لديها سوى المولى أبا عبدالله . رأت على باب الخيمة رجل فسألته عن شخصه وماذا يفعل ، فقال : ( أنا خولّي بن يزيد وكلني عمر بن سعد لحراستكم )
طفت ذكرى الكفيل إليها وقالت بحزن : ( أبعد عين أبي الفضل أنت تحرسنا؟ )
*
أين المحامي والسور العظيم؟ لم تذهب إليه عندما قتل فلقد منعها الحسين من ذلك . وحين توجهت الى الفرات في ليلة الحادي عشر رأت القمر مخسوف على الأرض . رأس الجمال مهشم ، وكفاه مقطعة ، وجسده كأنه قنفذ من كثرة السهام والنبال . أضاف ذلك المشهد الى همومها هم آخر ، والى أحزانها حزن جديد . اتجهت تجر أذيالها الى ابن الزهراء .
*
[ هـدم الأعـداء مـذ فـارقـت يـا رجـواي داري
أضـرمـوا وسـط فـؤادي بـلـهـيـب الـحـزن نـاري ]
*
كان شعاع من نور يمتد من جسده الشريف الى أعالي السماوات . اقتربت منه قائلة : ( أأنت الحسين أخي؟ أأنت حمانا؟ أأنت رجانا؟ ) . كان في جسد المولى أبا عبدالله سبعاً وسبعين جراحة وأكثر ، ما بين طعنة بسيف أو ضربة بسهم أو حجر . وكان ذلك الجسد الدامي هو آخر قرابين الأنبياء . وضعت الصابرة يديها تحت جسد أخيها ورفعته قليلاً موجهة وجهها للأعلى قائلة لجبار السماء : ( إن كان يرضيك هذا يا رب فخذ حتى ترضى . الهي تقبل منا هذا القربان ، قربان آل محمد ) . قدمت زينب قربانها وقلبها لأمر الإله مطيع .
*
كانت فضة خادمة الزهراء عليها السلام قد تعلمت من أمير المؤمنين عليه السلام أدعية كثيرة ، منها كلام له اذا تكلم به أتى إليه أسد وصار له عبداً مطيعاً . استأذنت فضة من الحوراء لكي تذهب الى البراري ، فلقد كان الأعداء ينوون أن يدوسوا صدر الحسين في الصباح أيضاً . ذهبت فضة وتكلمت بهذا الكلام فأتى لها أسد ضخم ، وتبعها الى أن وصلا الى جسد المولى أبي عبدالله ، وقالت له أن يحرس جسد حفيد الرسول لكي لا تدوسه الخيل في الصباح . وبالفعل فعندما أتى الأعداء في الصباح رأوا الأسد الضخم عند جسد المولى يحرسه ويمنعهم من الاقتراب . وبقي الأسد عند جسد ابن علي حتى دفن سلام الله عليه .
*
في يوم الحادي عشر ، جمع عمر بن سعد جثث جيشه وصلى عليها ودفنها ، وترك جثث الزواكي من آل هاشم على الثرى . وأذن مؤذن بالرحيل من أرض كربلاء ، أرض الحسين ، وأتوا الأرجاس الأنجاس يريدون اركاب بنات الأطهار فوق النياق . نهرهم ابن الحسين ، فلا يمكن لهذه الأيدي القذرة أن تلمس الطاهرات ، وقال : ( دعوهن يركبن بعضهن بعضاً ) . ركبت أيتام الحسين والنساء وبقيت زينب وأم كلثوم . فقالت أم كلثوم لاختها الكبرى : ( اذا ركبت أنا من يركبك أنت؟ ) . فأدارت وجهها ناحية الفرات ، الفرات الذي لا يزال ماءه العذب يجري ، الذي تحولت مياهه الى دماء أسفاً على ابن رسول الله العطشان وأنصاره الأحرار . دمعت عيناها وقالت : ( يركبني الذي أتى بي من المدينة الى كربلاء ) .
فانكسر لمنظرها زين العابدين فأتى لها والضعف قد أنهكه وهو يتوكأ على عصاه وقال : ( اركبي فلقد كسرت قلبي وزدت كربي )
*
وأركبها السجاد فارتعش جسده وسقط على الأرض ، فأتى اليه اللعين شمر وأخذ يضربه . فبكت بنت علي وقالت : ( ويلك يا شمر ، رفقاً بيتيم النبوة وسليل الرسالة وحليف التقى وتاج الخلافة! )
*
وطلبت النسوة من الأعداء أن يمروا بهن على جسد المولى أباعبدالله . وعندما وصلوا الى جسد الذبيح ألقت النسوة بأنفسهن من فوق النياق عليه ، هذه تقبله وأخرى تشمه ، وأخرى بفيض النحر تصبغ شعرها ، وهذه تضمه .
وجهت كريمة بني هاشم نداءها الى جدها وقالت :
( يا جداه يا رسول الله صلى عليك مليك السماء ، هذا حسينك بالعراء مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء . وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصبا ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى ، بأبي من لا هو غائب فيرتجى ولا مريض فيداوى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء )
*
ورأت العقيلة إمامها العليل يجهش بالبكاء ، يئن أنين الثكلى وونين الأيتام ، ملهوف على أبيه مفجوع به . فقد يتم وهو في الثالثة والعشرين من العمر ، وسيبقى مدى الدهر يبكي أباه الحسين ويرثيه الى المنية .
التفتت إليه وقالت : ( مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي؟ )
*
فقال السجاد : ( وكيف لا أجزع وأهلع ، وأنا أرى سيدي واخوتي وعمومتي وبني عمي وأهلي مضرجين بدمائهم ، مرملين بالعراء مسلوبين ، لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج إليهم أحد ولا يقربهم بشر )
فقالت الحوراء :
*
( لا يجزعنك ما ترى . فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله الى جدك وأبيك وعمك . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة وهذه الجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً )
*
[ وَنـادَتْ وَقـد عَـضَّ الـمُـصـابُ فُـؤادَهـا وَشَـبَّ لَـهـا بـيـنَ الـضُّـلـوعِ ضِـرامُ
أَيـا سَـائـقَ الأَضْـعـانِ قِـفْ لـي هُـنَـيْـئَـةً فَـهـا إِخـوَتِـي فَـوْقَ الـصَّـعـيـدِ نِـيـامُ ]

*
احتضنت زينب الكبرى أخاها قبل الوداع وقلبها يفيض بالحنين والاشتياق وقالت : ( أخي لو خيّروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك، لاخترت المقام عندك ولو أنّ السباع تأكل لحمي . ولكن هذه نياق الرحيل تجاذبنا بالمسير )
ودارت عينها في أرض كربلاء ، الى تلك الجسوم المقطوعة الرؤوس ، تودعهم بدموع عيناها . تركتهم وتركت قلبها معهم .
*
وساروا بهن في الطريق الى الكوفة ، وليس معهن من حماتهن حمي ، ولا من رجالهن ولي ، إلا عليل . أسارى بين الذل والهوان ، يضربوهن اذا دمعت عيناهن ، ويسبون أمير المؤمنين علي أمامهن . أركبوهم على نياق من غير سرج ، والأغلال بأيديهم وأرجلهم . والذي يدمي القلب أكثر فأكثر أن اللعناء رفعوا رؤوس بني هاشم أمامهم ، بحيث أنه كلما دار طرفهم رأوا رأس حبيب من أحبائهم ، يقدمهم رأس قرة عين الزهراء وقلب علي .

الخميس، ديسمبر 16، 2010

سُـورَة كَربَـلاء ،، آيَـةُ الحُسَيْـن


*
[ اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ]
*
بهذا الدعاء ابتدأ الحسين يوم العاشر من المحرم ، بعدما خطب في القوم وذكرهم بحسبه ونسبه ، فلم تنفع التذكرة ولا الموعظة ، فلا يفيد الصوت اذا لم تسمعه الاذن .
*
وتقدم الأصحاب أولاً ، وبدأت حملات القتال ، وكان الحسين يرى بأم عينيه مصارع رجاله وأحبائه واحداً بعد الآخر ، ويد الموت تخطف أرواحهم من هذه الدنيا . رأى دماءهم تصبغ وجه الأرض ، كل بقعة سقط فيها جسد شهيد تصبح قطعة من الجنة . وتواصل القتال حتى توسطت الشمس سماء الدنيا ، وحان وقت صلاة الظهر ، فصلى الامام مع الذين تبقوا من أصحابه صلاة الخوف . وانتدب رجال منهم يحمون المصلين ، ووقف رجل يصد النبال بصدره دون الحسين عليه السلام ، حتى انتهى الحسين من صلاته فسقط صريعاً لافظاً أنفاسه الأخيرة وهو يقول : ( اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك السلام عني ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك بنصرة ذرية نبيك )
*
ثم التفت الى سبط الرسول الاعظم قائلاً : ( أوفيت يابن رسول الله؟ )
فأجابه المظلوم : ( نعم أنت أمامي في الجنة ) . ففاضت روحه وهو سعيد ..

*
[ الـسَّـلامُ عـلـى قَـتـيــلِ الـعَـبـَرات وأسـيـرُ الـكُـرُبـات ]
*
انفنى الأصحاب ، قطعت أوصالهم وسالت دماءهم والامام الصابر ينظر إليهم يبكيهم وهو يتلو هذه الآية : { من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
*
وبزغت أقمار بني هاشم ، وكان أول البارزين هو علي الأكبر شبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تبعه بنو أبي طالب ، وأبناء مسلم بن عقيل ، والمولى يصبرهم ويواسيهم ، فلما حمى الوطيس ، واشتد القتال ، وأصاب الأقمار الخسوف ، قال : ( صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً )
*
ولما عاد الحسين من مصرع أخيه العباس عليهما السلام ، باكياً محني الظهر يكفكف دموعه بكمّه ، وقد رأى أن سده المنيع قد انهار ، وأن الشهادة تطلبه عزم على لقاء ربه . فأقبلت أخته زينب وبيدها طفل ، رضيع الحسين ، قائلة له : ( أبا عبدالله إن هذا الطفل لم يذق الماء مذ فترة ، خذه الى القوم لعلهم يسقونه شربة من الماء . فلقد جف اللبن في صدر أمه )
*
كانت الرباب قد أحضرت عبدالله الرضيع الى زينب ودموعها جارية قائلة لها : ( سيدتي خذي رضيعكم فإنه عطشان ، وأنا أستحي أن أراه بهذه الحالة ولا أقدر أن أسقيه )
*
فأخذ الحسين رضيعه العطشان ، وهو طفل قد بلغ الستة أشهر ، وأتى الى القوم وقال لهم : ( يا قوم إن كان ذنب للكبار فما ذنب هذا الرضيع ) . وطلب منهم سقاية الماء لهذا الصغير الذي في حجره ، فدار حديث في جانب الأعداء ، فمنهم من قال اسقوه ومنهم من قال لا تسقوه . فخاطب عمر بن سعد حرملة بن كاهل الأسدي وقاله له ( ويلك يا حرملة اقطع نزاع القوم ) ، فقال : ( أأسقه ماء؟ ) ، فأجاب عديم الرحمة : ( بل سدد السهم على نحر الرضيع ) .
*
قال الامام زين العابدين ، وتاج البكائين ، بعد زمن من واقعة الطف : ( إن حرملة بن كاهل الأسدي أحرق قلوبنا أهل البيت بقتله أخي عبدالله الرضيع ) ثم رفع يديه ودعى ربه : ( اللهم أذقه حر الحديد ، اللهم أذقه حر الحديد ، اللهم أذقه حر النار )
*
وبينما الحسين في حديث مع القوم ، والطفل ساكن لا يتحرك قد أنهكه الظمأ . اذ أحس الأب بحركة مفاجئة من ابنه الرضيع ، نظر إليه فرأى سهماً أصاب نحره وذبحه وهو في حجر والده . فعانق الطفل أباه قبل الفراق وتدفقت منه الدماء ، فملأ الحسين يده من دم رضيعه ورمى به نحو السماء قائلاً : ( اللهم لا يكون هذا أهون عليك من فصيل ناقة صالح . هوّن ما نزل بي أنه بعين الله ) . فلم تسقط على الأرض قطرة واحدة ، وتحول الدم المرمي الى رذاذ ماء ، وصارت تطوف حول العالم تسقي الاطفال الرضع فتروي ظمأهم فيخلدون ذكرى الرضيع الخالدة . حينها غرق المحروم في بحر الأحزان العميقة ..
*
[ مـا إن أحَـسَ حـرَّهُ انتفـض الجنــين
فـل القمـاط و ارتمـى فـي عنـق الحســين ]

*
هذا رضيعه فلذة كبده مقتول ، فلم يكتفي القوم بقتل الكبار ، بل اغتالوا حتى الصغار . وبينما الحسين عليه السلام واقف بين الخيام اذ أتاه صوت يقول : ( دعه يا حسين فإن له مرضعة في الجنة ) . وعاد أبي عبدالله ، واستقبلته ابنته سكينة قائلة : ( أبه لعلك سقيت أخي ماءً وجئتنا ببقيته ؟ ) لم يجبها أباها وكان قد أخفى الرضيع بين ملابسه . فأحست الصغيرة بخبر مفجع يطرق قلبها الصغير فقالت : ( أبه هل شرب أخي الماء أم مات من العطش؟ ) . فكشف لها عن رضيعه قائلاً : ( بنية سكينة هاكِ أخاك مذبوحاً من الوريد الى الوريد ) . وارتفعت الصيحة من أمه . لو كانت تدري أنهم سيقتلوه لما تركته من يدها ، لو كانت تدري أن قلوبهم قاسية حتى مع الأطفال لأبقت صغيرها في حجرها ، فصدرها الجاف القاحل أرحم من صدورهم .
*
وقــف الـسـبــط عـلـيــهـم بـاكــيـاً ألــقـى الـســلام
فـغــدت تـنـتــفـض الاجـســاد شـوقــاً وهــيـام
*
اتجه الحسين الى أصحابه ، رآهم أجساداً هامدة قد غادرتها الروح ، لكنها تنبض بالوفاء والفداء ، خاطبهم : ( يا أبطال الصفا ويا فرسان الهيجاء ، مالي أناديكم فلا تجيبون! وأدعوكم فلا تسمعون! نيام أنتم أرجوكم تنتبهون ، أم حالت مودتكم عن امامكم فلا تنصروه . هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهن النحول ، فقوموا عن نومتكم أيها الكرام وادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام ، ولكن صرعكم والله ريب المنون ، وغدر بكم الدهر الخؤون ، والا لما كنتم عن نصرتي تقصرون ) .
*
فلم يسمع منهم جواباً ، فنادى في البراري : ( وا قلة ناصراه . ألا هل من ناصر ينصرنا ؟ ألا هل من معين يعيننا ؟ ) . ووصلت صيحته الى قاع البحر فارتعشت الحيتان في المحيطات ، والطيور في أعالي السماوات ، والوحوش في الصحاري والأدغال ، وكلها تتمنى الموت دونه .
*
فلما أيس من الحياة ، توجه الى خيمة السجاد ، يودع ابنه ، فلما رآه زين العباد قام جالساً وأسندته السيدة زينب عليها السلام على صدرها ، بادره السجاد بسؤال : ( أبه كلما أتيت لي كان عمي العباس يأتي معك . أين عمي العباس؟ ) فملأت الدموع عينا المحزون ورق قلبه لهذا الشاب الضعيف ، الذي سيلاقي الأهوال من بعده ، فقال له : ( ولدي قتل ) ، فسأله : ( أين أخي علي الأكبر؟ ) ، قال له :( قتل ) وأراد أن يقطع كلام ولده الذي يفتت القلوب فأضاف : ( ولدي اعلم أنه لم يبق في الخيام من الرجال إلا أنا وأنت ) .
فصاح السجاد من فوره : ( عمة زينب عليّ بعصا والسيف )
قالت : ( ما تصنع بهما؟! )
قال لها : ( عمة زينب أما السيف فأذب به عن حرم رسول الله ، أما العصا فأتوكأ عليها )
قالت له : ( يابن أخي أنت عليل لا تقوى على النهوض! )
فقال لها : ( عمة زينب أوما تنظرين لقد بقي أبي وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معينا )
فأوصى الحسين أخته زينب قائلاً : ( احبسيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد ) .
*
[ مـن ذا يـقـدِّمُ لـي الـجـوادُ ولامـتـي والـصَّـحـبُ صَـرعـى والـنَّـصـيـرُ قـلـيـلُ
فـأتـتـهُ زيـنـبُ بـالـجـوادِ تـقـودُهُ والـدَّمْـع مِـن ذِكـرِ الـفِـراقُ يـسـيـلُ ]
*
وخرج من الخيمة يريد جواده فنادى : ( من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن محمد المصطفى ، من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن علي المرتضى ، من ذا الذي يقدم لي جوادي وأنا ابن فاطمة الزهراء )
*
فأبكى صوته حتى الجمادات في الكون . وكان اذا طلب جواده أتى له العباس بالجواد ، ولكن من أين للحسين بالعباس؟ فهو على الفرات قد قطعت منه اليدان وتهشم رأسه . فأقبلت أم الأحزان زينب بجواد الحسين قائلة : ( لمن تنادي وقد قرحت فؤادي ) ، فبكت وقالت : ( أخي هل رأيت قلباً أقسى من قلب أختك زينب وهي تقدم جواد المنية الى أخيها ) . فمسح الحسين يده على صدرها يدعو الله أن يلهمها الصبر . وأخذ يوصيها : ( أخية زينب أوصيك بتقوى الله . أخية زينب أوصيك بالعيال خيراً ) . وكانت نِعم الحافظ لعياله ، فكانت تسقيهم وهي عطشى وتطعمهم وهي جائعة ، وتدفع عنهم الموت وتواجهه.
*
وصاح المظلوم بقرب موعد المصاب والفجيعة ونادى بنسائه : ( يا أم كلثوم ، يا سكينة يا رباب هلممن للوداع فهذا آخر الوداع واللقاء في الجنة ) . فأحطن به بنات رسول الله هذه تسأله : ( الى أين يا حمانا؟ ) وأخرى تقول : ( الى أين يا رجانا؟ ) . وهو يصبرهن ويواسيهن . ثم التفت ولم يرى ابنته سكينة فسأل عنها ، قيل له أنها في الخيمة ، فذهب إليها ورآها جالسة في طرف الخيمة واضعة رأسها بين ركبتيها وهي تبكي . فقد حان وقت الوداع وحان وقت الضياع . فاقترب منها الحسين ومسح على رأسها ، يصبرها على الفراق ، فكانت دموع ابنته تحرق قلبه وروحه ، فوضعت رأسها على صدر أبيها واحتضنته وقالت له : ( أبه ردنا الى حرم جدنا ) ، ولكن هيهات أن يدعوه الى ذلك ، ودعها وخرج . أخذ يوصي النساء بالصبر وحفظ العيال ، أوصاهم بأن يطيعوا بعده ابنه زين العابدين فهو الامام والحجة من بعده على الخلق أجمعين . قال لهن : ( استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم الى خير ، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة . فلا تشكو ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم ) واستودعهم الله .
*
ركب جواده وحركه ما تحرك ، وأطرق الفرس برأسه الى الارض فنظر الحسين ، فرأى طفلة من أطفاله متعلقة برجل الجواد ، فنزل إليها الحسين وسألها : ( بنية ماذا تريدين؟ ) ، فجلست في حجره وقالت : ( أبه امسح على رأسي كما يفعل باليتامى )
قال لها : ( بنية أنت لست بيتيمة! )
فقالت له والدموع تخنقها : ( أبه أنا أعلم أنك ذاهب ولن تعود )
فآلم كلامها قلب الحسين ، ونادى زينب لتأخذها منه ، ومضى للميدان ..
*
[ تـريـث يـا أخــي أعـطـيـك أسـراري قـبـيـل الـمـوت يـا صــونـي وأسـتـاري
وصـايــا أمــنـا فـي خـاطـري تـسـعـر فــدعـنـي ألـثـم الأضـلاع والـمـنـحـر ]
*
سمع صوتاً خلفه ينادي : ( مهلاً مهلاً يابن الزهراء ) . فلما وصلت إليه أخته زينب عليها السلام طلبت منه أن ينزل من على ظهر جواده ويكشف لها عن صدره وعن نحره ، ففعل ما طلبته ، قبلته في نحره وشمته في صدره ، ثم وجهت وجهها نحو المدينة قائلة : ( أماه يا زهراء لقد استرجعت الأمانة ، أماه لقد أديت الوصية ) ، فسألها الحسين : ( أخية زينب أي أمانة وأي وصية؟ ) قالت له : ( لما دنت الوفاة من أمنا فاطمة أدنتني الى جانبها وأوصتني قائلة : بنية زينب اذا رأيت أخاك وحيداً فريداً في كربلاء قد عزم على الشهادة ، فشميه في صدره وقبليه في نحره ) . هاجت ذكرى الأم في قلوب أبناء فاطمة ، تذكروا أيام عزهم بين جدهم وأمهم وأبيهم ، وهاهم الآن مشردون بين أناس لا تخاف الله ولا تراعي قرابتهم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أرجعها عزيز الزهراء ومضى ناحية الميدان مرة ثانية ، سمع صوتها المتألم يناديه مرة أخرى فوقف لها . فلما وصلت إليه قالت له : ( دعني أتزود منك ، فهذا وداع لا تلاقي بعده ) . كم هو مؤلم الفراق ولوعته ، لم يقدر قلب العقيلة على فراق نور وجه أخيها الحسين ، فهما متلازمان منذ الطفولة ، وكم هو صعب وداعه الآن وهي تعلم أنها ستواجه الرزايا بعده ، واذا التفتت لا ترى أحداً من اخوتها حولها يساندها حتى الحسين ..
*
أرجعها الحسين عليه السلام الى الخيمة ، ومضى ببطء الى الميدان . تقدم وتقدم ، لم يسمع ذلك الصوت يناديه ، وفي المرة الثالثة رجع الحسين عليه السلام بنفسه ، كم افتقدها في هذه الدقائق . رأى في الخيمة ضجة ، فلما رأينه النساء صحن وقلن له أن زينب قد غشي عليها . فأخذها الحسين بين أحضانه ، وصار يمسح على رأسها والدموع تهطل منه حتى أفاقت .
*
[ وهـيـهــات أن أسـلـو مـصـائـب كـربـلا * وتـلـك بَـكـاهـا قـبـلُ طــه الـمـكـــرّمُ ]
*
وصلت رسالة فاطمة العليلة ، الغريبة في ديارها ، الحزينة برحيل أهليها عنها الى أبا عبدالله في ظهر يوم عاشوراء ، بعد أن قتل أصحابه جميعاً حتى رضيعه . أخذ هذه الرسالة وقرأها وكان مكتوباً فيها :
*
( بسم الله الرحمن الرحيم . من الضعيفة المريضة ، العليلة فاطمة الى أبيها الحسين . أما بعد ، لقد طال عليّ الفراق ، وبَعُدَ التلاقي ، فأدركوني وإلا هلكت . ثم السلام على عمومتي وعماتي ، واخوتي وأخواتي ، يا أبا عبدالله قبِّل لي وجه أخي عبدالله الرضيع فإني مشتاقة إليكم ) .
*
دمعت عيناه ، التفت يمنة ويسرة فلم يجد أحداً من أهل بيته ، فكلهم قد صافح التراب جبينه ، وقطع الحِمام أنينه ، فنادى : ( هذه فاطمة تقرؤكم السلام )
*
فلما توسط الميدان ، ورأى أن الجموع قد احتشدت ، وكلها تريد قتله والفوز بدنياً فانية ، رفع رأسه الشريف الى السماء وناجى ربه : ( اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك . اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا )
*
وصار الأعداء يبرزون إليه ويقاتلونه ، فكان يقتلهم بضربة واحدة ، فهذا شبل علي في الميدان ، والفتى سر أبيه . وكان ينادي فيهم بين الحين والآخر : ( هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في اغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في اعانتنا؟ ) ، فكان لا يسمع ولا يرى ملبياً لندائه واستغاثته ، وكان يشفق عليهم من غضب الجبار ومن النار التي تتحرق شوقاً اليهم ، وكان يكثر من قول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم )
*
كر عليهم كالليث الغضبان يحمي عرينه ، فكانوا يفرون من بين يديه كالجراد . وذكر لعين كان في جيش يزيد : ( والله ما رأيت مكثوراً قطُ قد قُتل ولدُه وأهل بيته واخوته وأصحابه أربط جأشاً من الحسين ، ولا أمضى جناناً منه . ولقد كانت الرجال تشد عليه ويشد عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً ، وهو رجل واحد فيشد عليهم فينهزمون بين يديه انهزام المعزى إذا شد بها الأسد ) .
*
فلما كثرت قتلاهم نادى عمر بن سعد : ( ويحكم هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، احملوا عليه من كل جانب ) . فحملوا على سبط طه من كل جانب وصاروا يرمونه بالنبال ويضربونه بالسيوف من كل جهة . فلما كثرت جراحه ، وقف ليستريح ساعة ، فضربه لعين بحجر أصاب جبهته الشريفة ، فانبثق منها الدم ، فرفع قميصه ليمسح الدماء من على وجهه ، فرمى حرملة اللعين سهماً مسموم له ثلاث شعب وقع على قلب الحسين الطاهر . فانحنى الامام الهمام يريد اخراج السهم ، فلم يقدر على اخراجه إلا من قفاه فانفجرت الدماء كالينبوع ، فسقط على الارض قائلاً : ( بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ) ، وتوسد التراب ، وأخذ يصبغ لحيته بدمه وهو يقول : ( هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول الله وأنا مخضب بدمي ، أقول له قتلني فلان وفلان ) . وحاول جواد الحسين أن يساعد فارسه على النهوض فلم يقدر الحسين لشدة ما نزل به من المصاب ، فأخذ الجواد يمرغ ناصيته بدم الحسين وتوجه نحو الخيام ..
*
[ يــا فـاطِـمــة قُـومــي الـى الـطِّـفــوفِ
هــذا حـسـيــنٌ كـعـبــةُ الـسُّـيــوف ]
*
كان خيل الحسين يصهل باكياً ، شاكياً لرب العباد ، من هذه الظليمة الكبرى لسيد شباب أهل الجنة . ولما رأت ابنة علي جواد الحسين مقبلاً ، ورأت ناصيته مدمية والسرج ملوياً ، قالت له : ( يا جواد الحسين أين حسينٌ؟ ) . فأخذها الى حيث وقع شقيق روحها . ودهشت زينب لما رأته مملوءاً بالجراح والطعنات ، فأخذت تناديه : ( أخي بحق جدنا رسول الله إلا ما كلمتني ، وبحق أبانا أمير المؤمنين إلا ما خاطبتني ، وبحق أمنا الزهراء إلا ما كلمتني ) . ففتح وريث الأنبياء عينيه وقال لها : ( أخية زينب كسرت قلبي ، وزدتيني كرباً فوق كربي ، فبالله عليك الا ما سكت وسكنت ) . ولكن كيف تسكن وكيف تسكت وهي ترى حبيب الفؤاد ملطخاً بدمائه الزاكية . وأوصاها الامام أن تعود الى الخيام ، فأطاعت أمر مولاها وقامت ونظرت الى عمر بن سعد وقالت : ( ويحك يابن سعد أيقتل أبو عبدالله وأنت تنظر إليه؟ ) فأشاح بوجهه عنها ودموعه تجري . فخاطبت جماعته : ( ويحكم أما فيكم مسلم! ) فلم يجبها أحد . فلقد أعلنوا كفرهم مذ خرجوا على سبط الرسول الكريم وقرة عين البتول .
*
فصاح ابن سعد : ( ويحكم أنزلوا وأريحوه! ) . فنزل إليه رجل ولم يقدر على قتله فولّى هارباً ، فلقد رأى قمراً على الأرض ، ومن يقدر أن يقتل الجمال كله؟ وذهب إليه رجل آخر فارتعدت فرائصه وألقى سيفه ورجع مدبراً ، رأى رسول الله ملقىً على الأرض ، فلم يجرؤ على قتل أشبه الناس بحبيب الله . فذهب إليه الشمر عليه اللعنة فلما رأى حجة الله ، رفسه فانقلب الامام عليه السلام ، ثم جلس على صدره فقال له الحسين : ( يا شمر لا تبتل بدمنا وأضمن لك شفاعة جدي يوم القيامة ) . فأجاب اللعين : ( قنطار واحد من ابن زياد خير لي من شفاعة جدك ) . فطعنه اثنا عشرة طعنة ، ليت شلت يداه ، وأخيراً وضع خنجره على نحر المظلوم ، فارتجت لفعلته السماوات السبع والعرش العظيم ..
*
[ هـل صـحـيـحٌ ذبـحـوكَ الـقـومُ لـم يـسـقـوكَ مـاء
هـل صـحـيـحٌ كـنـتَ مـلـقـىً دونَ رأسٍ فـي الـعـراء ]
*
قبل 57 سنة ، جاء الأمين جبريل عليه السلام بتربة كربلاء الى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعطاها لزوجته أم سلمة وأخبرها أنه حين يقتل الحسين يتحول هذا التراب الذي في القارورة الى دماً عبيطاً . وفي المدينة ، كانت أم سلمة نائمة ، فرأت في منامها رسول الله أشعث مغبر ، فسألته عن حاله فقال : ( قتل ولدي الحسين ، ولا زلت أحفر القبور له ولأصحابه ) ، فانتبهت من نومها فزعة فلما رأت القارورة ، وجدت أن التراب قد تحول الى دمٍ قانٍ.
*
كانت زينب في خيمة السجاد حين شعرت بتغير في الأجواء . أرعدت السماء معلنة غضبها ، وتزلزلت الأرض معلنة سخطها ، كادت تمور بأهلها من هذه الجريمة النكراء . تساءلت عقيلة حيدر : ( يابن أخي ما الخطب؟ ) ، فطلب منها أن ترفع طرف الخيمة ففعلت ، فصاح مفجوعاً : ( عمة زينب هذا رأس أبي الحسين على الرمح )
*
فاعتلى صوت النواح والعويل ، وهجم الأعداء على خيام آل الرسول وأضرموا فيها النيران ، ينهبون مافيها ويسلبون حرائر رسول الله . فقالت أم المصائب : ( يا بقية الماضين، وثمال الباقين أضرموا النار في مضاربنا فما رأيك فينا؟ ) ، فصاح السجاد : ( عمة زينب عليكن بالفرار ) . ففرن بنات رسول الله وهن يصحن : ( أي وا محمداه ، أي وا علياه ) . وفرت كعبة الرزايا ناحية التل الزينبي ، تقوم مرة وتقعد أخرى وهي تقول : ( ليت السماء انطبقت على الأرض ، ليت الجبال تدكدكت على السهل ، اليوم مات جدي اليوم ماتت أمي ) .
*
مات أصحاب الكساء في ذلك اليوم وتجددت أحزان زينب . رأت بعينها وفاة جدها رسول الله ، وآلام أمها وفراقها ، ومصائب أبيها وأحشاء الحسن المفتتة ، وكلهم هموم وغموم وقعت على قلبها منذ صغرها ، فلم تفارقها ، فبأبي التي ورثت مصائب أمها وغدت تقابلها بصبر أبيها . ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله . لا يوم كيوم الطفوف ، يوم الفاجعة الكبرى والمصيبة العظمى ..
*
حين أشعلوا النار في خيام آل طه ، فرت طفلة من بنات الحسين وكانت النار شاعلة في أطراف ردائها ، فلحق بها حميد بن مسلم ، وكان راوياً ينقل الوقائع ، فجاؤوا به الى كربلاء لينقل تلك الواقعة الأليمة وما يجري فيها . وكان يريد اطفاء النار ، وحين وصل إليها واطفأ النار ، قالت له : ( يا شيخ هل قرأت القرآن؟ )
فقال لها : ( بلى )
فقالت الصغيرة : ( وهل قرأت { فأما اليتيم فلا تقهر } ؟ )
فقال : ( بلى قرأتها )
فرجته قائلة : ( يا شيخ أنا يتيمة الحسين فارحم يتمي ) ثم أضافت : ( دلني على طريق الغري ، فإن عمتي أخبرتني أن قبر جدنا أمير المؤمنين هناك وأنا أريد أن ألوذ به )
*
فأخبرها بأن طريق النجف بعيد ، وأخذها الى الفرات لكي يروي ظمأها . فلما وقفت على الماء ورأته يجري أنّت أنّة تزلزلت لها الأرضون ، وأخذت تبكي وتقول : ( كيف أشرب الماء وقد قتل ابن رسول الله عطشاناً ) . فأرجعها الى عمتها زينب .
*
[ قــم يــا عــلــي فــمــا هــذا الــقــعــود فــمــا عــهــدي تــغــض عــلــى الأقــذاء أجــفــانــا ]