الخميس، سبتمبر 02، 2010

¸¸» .. هــــؤلاء فــــقــــدوكـ .. «¸¸


(1)
.
ذلك الذي كان يأتيهم وحيداً فريداً في الليل ..
وعلى كتفيه خبزاً وتمراً ..
الآن قد عرفت اليتامى من كان هو ..
[ لقد كان علي ]
.
حين فحص الطبيب الامام قبل موته ، وصف له دواء ، كان يعرف أن الامام راحل لا محالة ، لكن لا يوجد مضرة من المحاولة ، وكان دواءه هو اللبن ، فكانوا يسقوه لبناً . وفي ساعة من الساعات ، طرقت الباب في دار أمير المؤمنين ، ففتح الحسن عليه السلام ، ورأى مجموعة من الأطفال والنساء ، كل واحد منهم حامل اناء فيه لبن ، بالقدر الذي استطاع أن يحضره ، فسألهم الامام من يكونون ، فأجابوا أنهم أرامل الكوفة ويتاماها ، عرفوا أن دواء الامام هو اللبن فأحضروه له .
دخل الاطفال وألقوا بنفسهم على صدر أمير المؤمنين عليه السلام ، الأب العظيم ، فلا ينسون كم ليلة جاء لهم يحمل القراب على ظهره ، يطعمهم ويسقيهم بيده ، يلاعبهم ويمزح معهم ، كم من ليالي ناموا على صوته . ولا تنسى الأرامل من كان عوناً لها حين رحل الزوج ، من مد لها يد المساعدة واهتم بشؤونهم والعناية بهم ليل نهار ، فلم يكن أميراً يجلس على كرسي ويتأمر على حاشيته ، لم يكن له قصر قط ، ولم يكن لديه فراش وثير ، كان الحصير هو مكان منامه ، لم يلبس أحسن الثياب لكي لا يعلو على الفقراء ، شاركهم بقسوة العيش ، وأكدار الحياة . كان لا يغمض له جفن ، حتى يتفقد رعاياه بنفسه ، فكان هو الحاكم الرحيم .
بكت اليتامى حتى لم يبقى دمع ، ونحبت الأرامل نحيباً يقطع القلوب ، فاليوم هو يوم الوداع الأخير ، والمشهد الأخير ، بعد هذا اليوم لن يكون في الوجود علي بن أبي طالب ، لن يسمعوا صوته ، سيفتقدون الأب الحنون ، العطوف عليهم ، سوف يرحل أبو الأيتام ..
.
[ يا سيِّدي من لليتيم؟ ]
.
.
(2)
.
[ بـروحِـك إنـنـي عـلـقـت .. ولا زالت تـضِـجُّ إلـيـك فِـيـّا
فـخُـذ هـذا ابـن صـوحـانٍ عـطـيـشٌ .. لـيُـروي مـن مُـحـيّـاكـم مُـحـيّـا ]
.
عند دفن الامام علي عليه السلام ، قام صوحان بن صعصعة ، وكان صاحب الامام عليه السلام ، يأخذ التراب بيده ويضرب به رأسه ، ويقول : ( بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين ، هنيئاً لك يا أبا الحسن ، فلقد طاب مولدك ، وقوي صبرك ، وعظم جهادك ، وظفرت برأيك ، وربحت تجارتك ، وقدمت على خالقك فتلقاك ببشارته ، وحفتك ملائكته ، واستقررت في جوار المصطفى ، فأكرمك الله بجواره ، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى ، وشربت بكأسه الأوفى فاسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك ، والعمل بسيرتك ، والموالاة لأوليائك ، والمعاداة لأعدائك ، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك ، فقد نلت ما لم ينله أحد ، وأدركت ما لم يدركه أحد ، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده ، وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت السنن ، وأبرت الفتن ، واستقام الإسلام وانتظم الإيمان ، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام ، بك اعتدل ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل ، وأقيمت السنن ، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك ، سبقت إلى إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدما مؤثرا ، وسارعت إلى نصرته ، ووقيته بنفسك ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر ، قصم الله بك كل جبار عنيد ، وذل بك كل ذي بأس شديد ، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى ، وقتل بك أهل الضلال من العدى ، فهنيئا لك يا أمير المؤمنين كنت اقرب الناس من رسول الله قربى وأولهم سلما وأكثرهم علما وفهما ... ) .
.
وعندما انتهى ، أنشد قائلاً :
.
ألا مــــــن لــــــي بــــــأنـــسك يا أخيا..........ومـــــن لـــــــي أن أبـــــثك مـــــا لــديا
طوتــــــك خــــــطوب دهــــر قـــد تولى...........لــــــذاك خطــــــوبه نـــــــشرا وطـــــيا
فـــــلو نـــــشرت قـــــواك لــي المــنايا...........شــــــكوت إليـــــــك مـــــا صــنعت إليا
بــكيـــــتك يــــــا عــــــلي بــــدر عيـني...........فــــــلم يـــــغن الـــــبكاء عـــــليك شـيا
كــــــفى حـــــزنا بدفــــــنك ثــــم إنـــي...........نفـــــضت تـــراب قبـــــرك مــــن يــديا
وكـــــانت فـــي حـــــــياتك لـــي عــظاة...........وأنــــــت اليــــــوم أوعـــــظ مــنك حيا
فــــــيا أســـــفي علـــــيك وطول شوقي...........ألا لــــــــو أن ذلــــــــــك رد شــــــيــــا
.
[ وفقد الصديق صديقه ]
.
.
(3)
.
عاد الحسنان من الدفن ، يتكئ أحدهما على الآخر ، مروا بخربة في الكوفة فسمعوا فيها أنينا ، فدخلوا ووجدوا رجلاً كبير السن وهو يحن حنين الثكلى الوالهة ، فوقف الحسنان وسألاه عن حاله ، كان رجلا غريباً قدم الى الكوفة منذ مدة ولا أهل له ، وفي كل ليلة عندما يحل الظلام ، بعد أن تنام العيون ، وتهدأ الأصوات ، كان يأتي إليه رجل بالطعام والشراب ، يجلس معه ، يؤنسه ويسليه ، يزيح عنه الهم والحزن ، وقد فقده منذ ثلاثة أيام .
ثلاثة أيام لم يأت هذا الرجل ، تركه وحيداً لثلاثة أيام فقط ، ولم يعلم أنه ليس الوحيد الذي فقده ، بل الدنيا بأسرها فقدته ..
فسألوه عن وصف هذا الرجل ، فأجاب الشيخ : ( إني مكفوف البصر ) ، فسألاه عن اسمه فقال : ( كنت أسأله عن اسمه فيقول : إنما أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ) ، فسألاه عن حديثه ، فقال : ( دأبه التسبيح والتقديس والتكبير والتهليل ، وإن الأحجار والحيطان تجيب بإجابته وتسبح بتسبيحه ) ، فبكي الحسنان وقالا : ( صفات سيدنا ومولانا أمير المؤمنين ) ، فسألهم عن حاله ، وكان جوابهم أن عظموا له الأجر باستشهاد أمير المؤمنين عليه السلام ، مقتولا بسيف أشقى الأولين والآخرين .
فلم يتمالك نفسه وجعل يحثو التراب على وجهه ويلطم خديه ، ويصرخ صراخ الفاقدين ، ويصيح : ( وا خجلتي منك يا أمير المؤمنين ) .
مات العظيم ، ورحل صاحب القلب الرحيم . طلب منهم أن يأخذوه الى حيث دفن الكريم ، وجثى الرجل على قبره ، يبكي وينتحب ويئن أنين المحبين ، فهذا هو الفراق ، أبكى كل من شهد ذلك ، بكى حتى غشي عليه ولم يفق من غشيته تلك ، فما طعم الحياة بدون علي؟
.
.
(4)
.
[ لا ســيــفَ إلا ذو الـفــقــارِ ولا فَــتَـــى إلاَّ عـــلــــيٌّ شَــهْــمُــهــا ونَـبـيــلُــهــا ]
.
فقد ذو الفقار حامله ، فقد بطله ، فقد ذلك الشجاع الذي قتل الكفار والمنافقين به ، كم جرى عليه من دمائهم .
كان انتصار الأمير عليه السلام في المعارك من انتصار سيفه ، فكم كان يشعر بالفخر وهو في يده ، وكم شعر بالحزن حينما تركه صاحبه . في قلبه غليل وحقد على قاتليه ، فكم ينتظر بشوق ولهفة الثورة على من قتل صاحبه وظلمه ظلماً كبيراً .
ففي تخصيص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الامام علي بسيف ذو الفقار ، لم يتشرف الامام بالسيف فقط ، بل تشرف السيف فيه ، فوصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو من تقلده ، فالحق معه حيثما دار ، ولن يقتل أحداً فيه إلا بالحق ..
.
[ السلام على المخصوص بذي الفقار ]
.
.
هذه الكعبة والمحراب نادا يا علي ..
وكل الوجود ناداه ..
قتلوا الصلاة في محرابها ، وخطفوا من الكعبة وليدها ، جرح فقده لا يبرأ مدى الدهور ، والدمع المتساقط حزناً على فراقه لا ينتهي أبداً .
في بيت الله ابتدأ مشوار حياته ، وفي بيت الله ختمها . فالسلام على وليد الكعبة ، والسلام على قتيل المحراب ..