الجمعة، ديسمبر 17، 2010

● سبـايـا بـأكـوار الـمـطـايـا حـواسِـراً ●


*

[ أشـهـد أن دمـك سـكـن الـخـلـد ، واقـشـعـرت لـه أظـلـة الـعـرش
وبـكـى لـه جـمـيـع الـخـلائـق ]
*
كانت زينب ولم يبق غيرها ، المحامي والكفيل حين غاب المحامي والكفيل ، في ليلة الحادي عشر وبعدها من الليالي . كانت ملجأ للأيتام والأمهات الثكلى ، وهي الغريبة الثكلى المفجوعة بأبنائها والفاقدة لاخوتها وليوث عرينها . ورغم ثقل تلك المصائب ومرارتها ، ظلت جبلاً شامخاً لا يهتز مهما عصفت به الرياح . جمعت النساء ولملمت شمل الأيتام الضائعة الهائمة على وجهها في الصحراء ، رغم الأشواك التي كانت تدمي قدماها ، ورغم حرارة التراب ، ورغم قلبها الذي يحترق من الآلام التي أصابتها . وهي المدافعة بجسدها عن زين العابدين العليل حين أراد الأشرار أن يقتلوه ، ووقفت أمامهم بشجاعة اللبوة التي تحمي عيالها . أراد اللعناء أن يطفئوا صوت الحق ، ولكن هيهات أن ينطفئ وشعلة زينب ما تزال تنبض بالحياة ، فالحسين زينب وزينب هي الحسين ، روحاً في جسدين .
*
بعد أن نهبوا خيام آل الرسول وسلبوا النساء ، وأرعبوا قلوب الطاهرات ، صاح الأعداء : ( أوطئوا بالخيل صدر الحسين ) . فهجمت الخيل على ذلك الجسد الطعين ، قطيع الرأس والاصبع ، سليب الرداء ، وارتقت على صدره الشريف وداسته بحوافرها حتى طحنت عظامه كلها وتفتت جسده الطاهر . واحتزوا رؤوس جميع أصحاب الامام وأهل بيته ، حتى رأس الرضيع حزوه ورفعوه عالياً فوق الرمح ، فلقد وعد ابن زياد بجائزة قيمة عن كل رأس ، فبئس ما صنعت أيديهم وتباً لهم .
*
أوكلها حفيد الرسالة بحماية الأيتام وحفظهم بعد رحيله . ولكنها فقدت اثنان من الصغار فأخذت تبحث عنهم مع أم كلثوم وسكينة ، فلما وجدوهما رأوهما ميتتان من العطش . ذهب لعين الى عمر بن سعد وقال : ( يابن سعد أما الحسين فقتلناه وأما الصغار فبدأت تموت من الظمأ ) . فأمر ابن سعد جنوده أن يملؤوا القرب بالماء ويذهبوا بها للنساء والأطفال . وضعوا الماء أمام أكبر امرأة فأشاحت بوجهها عنه ، فكيف تشرب وقد ذبح ابن رسول الله عطشاناً . مروا به على جميع النساء والأطفال فلم تأخذ واحدة منهن الماء ، فهن لا يردن الماء إلا من قربة عمهم أبي الفضل عليه السلام . أخذت طفلة صغيرة الماء بكلتا يديها وقامت تنظر فيه ، حدق فيها الجميع ينظرون ماذا تفعل . فجرت ناحية الميدان وعمتها زينب تلحق بها ، فخاطبتها قائلة : ( عمة زيب لقد سمعت أبي يقول : وحق جدي إني لعطشان . وأنا أريد أن أسقيه الماء قبل أن يموت من العطش ) . فبكت السيدة زينب وأخبرت اليتيمة بوفاة أبيها الحسين عطشان ، فرمت الطفلة الماء من يدها وسال على الأرض ووضعت رأسها في حجر عمتها وأجهشت بالبكاء .
*
جمعوا النساء في خيمة واحدة نصفها محروق ، وكانت زينب تنادي بالأسماء واحدة واحدة بين الحين والآخر حتى تتأكد من وجودهن . وفي مرة حين وصلت الى اسم زوجة الحسين نادت : ( رباب .. يا رباب ) ، لم تجبها ، ( يا أم عبدالله ) ، لم تكن موجودة في الخيمة . فأسرعت أسيرة الأحزان الى الخارج تبحث عنها ، فهذه عزيزة قلب الحسين ، سمعت صوت نحيب في الصحراء يقطع القلوب . اتجهت ناحية الصوت فرأت الرباب جالسة وفي حجرها رضيعها عبدالله وهي تناديه : ( ولدي لقد در اللبن في صدري ) . ترجوه أن يصحو ويروي عطشه ، أن يفتح تلك العينين اللتان خطفتا روح الأم حين أغلقتا .
*
أرجعتها زينب الى الخيمة ، فاتجهت الى مهد عبدالله الرضيع ، تهز ذلك المهد وهو يئن حنيناً الى رضيعه .
*
[ سـلامٌ عـلـى الـقـلـب الـكـبـيـر وصـبـره بـمـا قـد جـرت حـزنـاً لـه الأدمـع الـحـمـر ]
*
عندما أرخى الليل ستاره وهدأت حوافر الخيل ، وحان وقت صلاة الليل . فرشت الحوراء سجادتها وهي تستذكر أبا عبدالله ، ففي مثل هذا الوقت في الليلة الماضية كان صوته وأصوات أصحابه تملأ الأفق بمناجاتهم وترتيلهم للقرآن الكريم ، والآن كم هو موحش الليل بسكونه وهدوئه . لم تنسى الحسين في صلاتها فهو الذي أوصاها : ( أخية زينب لا تنسيني في صلاة الليل ) . باكية العينين ، مفطورة الفؤاد ، كسيرة القلب .
رآها زين العباد فقال : ( عمة زينب ما رأيتك قط تصلين من جلوس إلا في هذه الليلة! )
فقالت لابن أخيها : ( لا تلمني يابن أخي فإن الجري وراء الأطفال في الصحراء قد أدمى قدماي . والأمر الآخر إن مصيبة قتل أبيك الحسين كسرت ظهري ) .
*
ما أشد أساك يا زينب ولوعتك . كانت زينب وريثة أحزان الزهراء . فلم يشهد التاريخ أخت مفجوعة بأخيها مثلها . احدودب ظهرها وشاب شعرها من هذا المقتل الدامي . وتخرج ابنة علي بآلامها أحزانها ، فمن هو سلوتها بعد الحسين؟ من إليه تبث شكواها وهمها؟ ليس لديها سوى المولى أبا عبدالله . رأت على باب الخيمة رجل فسألته عن شخصه وماذا يفعل ، فقال : ( أنا خولّي بن يزيد وكلني عمر بن سعد لحراستكم )
طفت ذكرى الكفيل إليها وقالت بحزن : ( أبعد عين أبي الفضل أنت تحرسنا؟ )
*
أين المحامي والسور العظيم؟ لم تذهب إليه عندما قتل فلقد منعها الحسين من ذلك . وحين توجهت الى الفرات في ليلة الحادي عشر رأت القمر مخسوف على الأرض . رأس الجمال مهشم ، وكفاه مقطعة ، وجسده كأنه قنفذ من كثرة السهام والنبال . أضاف ذلك المشهد الى همومها هم آخر ، والى أحزانها حزن جديد . اتجهت تجر أذيالها الى ابن الزهراء .
*
[ هـدم الأعـداء مـذ فـارقـت يـا رجـواي داري
أضـرمـوا وسـط فـؤادي بـلـهـيـب الـحـزن نـاري ]
*
كان شعاع من نور يمتد من جسده الشريف الى أعالي السماوات . اقتربت منه قائلة : ( أأنت الحسين أخي؟ أأنت حمانا؟ أأنت رجانا؟ ) . كان في جسد المولى أبا عبدالله سبعاً وسبعين جراحة وأكثر ، ما بين طعنة بسيف أو ضربة بسهم أو حجر . وكان ذلك الجسد الدامي هو آخر قرابين الأنبياء . وضعت الصابرة يديها تحت جسد أخيها ورفعته قليلاً موجهة وجهها للأعلى قائلة لجبار السماء : ( إن كان يرضيك هذا يا رب فخذ حتى ترضى . الهي تقبل منا هذا القربان ، قربان آل محمد ) . قدمت زينب قربانها وقلبها لأمر الإله مطيع .
*
كانت فضة خادمة الزهراء عليها السلام قد تعلمت من أمير المؤمنين عليه السلام أدعية كثيرة ، منها كلام له اذا تكلم به أتى إليه أسد وصار له عبداً مطيعاً . استأذنت فضة من الحوراء لكي تذهب الى البراري ، فلقد كان الأعداء ينوون أن يدوسوا صدر الحسين في الصباح أيضاً . ذهبت فضة وتكلمت بهذا الكلام فأتى لها أسد ضخم ، وتبعها الى أن وصلا الى جسد المولى أبي عبدالله ، وقالت له أن يحرس جسد حفيد الرسول لكي لا تدوسه الخيل في الصباح . وبالفعل فعندما أتى الأعداء في الصباح رأوا الأسد الضخم عند جسد المولى يحرسه ويمنعهم من الاقتراب . وبقي الأسد عند جسد ابن علي حتى دفن سلام الله عليه .
*
في يوم الحادي عشر ، جمع عمر بن سعد جثث جيشه وصلى عليها ودفنها ، وترك جثث الزواكي من آل هاشم على الثرى . وأذن مؤذن بالرحيل من أرض كربلاء ، أرض الحسين ، وأتوا الأرجاس الأنجاس يريدون اركاب بنات الأطهار فوق النياق . نهرهم ابن الحسين ، فلا يمكن لهذه الأيدي القذرة أن تلمس الطاهرات ، وقال : ( دعوهن يركبن بعضهن بعضاً ) . ركبت أيتام الحسين والنساء وبقيت زينب وأم كلثوم . فقالت أم كلثوم لاختها الكبرى : ( اذا ركبت أنا من يركبك أنت؟ ) . فأدارت وجهها ناحية الفرات ، الفرات الذي لا يزال ماءه العذب يجري ، الذي تحولت مياهه الى دماء أسفاً على ابن رسول الله العطشان وأنصاره الأحرار . دمعت عيناها وقالت : ( يركبني الذي أتى بي من المدينة الى كربلاء ) .
فانكسر لمنظرها زين العابدين فأتى لها والضعف قد أنهكه وهو يتوكأ على عصاه وقال : ( اركبي فلقد كسرت قلبي وزدت كربي )
*
وأركبها السجاد فارتعش جسده وسقط على الأرض ، فأتى اليه اللعين شمر وأخذ يضربه . فبكت بنت علي وقالت : ( ويلك يا شمر ، رفقاً بيتيم النبوة وسليل الرسالة وحليف التقى وتاج الخلافة! )
*
وطلبت النسوة من الأعداء أن يمروا بهن على جسد المولى أباعبدالله . وعندما وصلوا الى جسد الذبيح ألقت النسوة بأنفسهن من فوق النياق عليه ، هذه تقبله وأخرى تشمه ، وأخرى بفيض النحر تصبغ شعرها ، وهذه تضمه .
وجهت كريمة بني هاشم نداءها الى جدها وقالت :
( يا جداه يا رسول الله صلى عليك مليك السماء ، هذا حسينك بالعراء مرمل بالدماء ، مقطع الأعضاء ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والرداء . وبناتك سبايا ، وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصبا ، بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى ، بأبي من لا هو غائب فيرتجى ولا مريض فيداوى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء )
*
ورأت العقيلة إمامها العليل يجهش بالبكاء ، يئن أنين الثكلى وونين الأيتام ، ملهوف على أبيه مفجوع به . فقد يتم وهو في الثالثة والعشرين من العمر ، وسيبقى مدى الدهر يبكي أباه الحسين ويرثيه الى المنية .
التفتت إليه وقالت : ( مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي واخوتي؟ )
*
فقال السجاد : ( وكيف لا أجزع وأهلع ، وأنا أرى سيدي واخوتي وعمومتي وبني عمي وأهلي مضرجين بدمائهم ، مرملين بالعراء مسلوبين ، لا يكفنون ولا يوارون ، ولا يعرج إليهم أحد ولا يقربهم بشر )
فقالت الحوراء :
*
( لا يجزعنك ما ترى . فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله الى جدك وأبيك وعمك . ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة وهذه الجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً )
*
[ وَنـادَتْ وَقـد عَـضَّ الـمُـصـابُ فُـؤادَهـا وَشَـبَّ لَـهـا بـيـنَ الـضُّـلـوعِ ضِـرامُ
أَيـا سَـائـقَ الأَضْـعـانِ قِـفْ لـي هُـنَـيْـئَـةً فَـهـا إِخـوَتِـي فَـوْقَ الـصَّـعـيـدِ نِـيـامُ ]

*
احتضنت زينب الكبرى أخاها قبل الوداع وقلبها يفيض بالحنين والاشتياق وقالت : ( أخي لو خيّروني بين المقام عندك أو الرحيل عنك، لاخترت المقام عندك ولو أنّ السباع تأكل لحمي . ولكن هذه نياق الرحيل تجاذبنا بالمسير )
ودارت عينها في أرض كربلاء ، الى تلك الجسوم المقطوعة الرؤوس ، تودعهم بدموع عيناها . تركتهم وتركت قلبها معهم .
*
وساروا بهن في الطريق الى الكوفة ، وليس معهن من حماتهن حمي ، ولا من رجالهن ولي ، إلا عليل . أسارى بين الذل والهوان ، يضربوهن اذا دمعت عيناهن ، ويسبون أمير المؤمنين علي أمامهن . أركبوهم على نياق من غير سرج ، والأغلال بأيديهم وأرجلهم . والذي يدمي القلب أكثر فأكثر أن اللعناء رفعوا رؤوس بني هاشم أمامهم ، بحيث أنه كلما دار طرفهم رأوا رأس حبيب من أحبائهم ، يقدمهم رأس قرة عين الزهراء وقلب علي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق