الأربعاء، ديسمبر 15، 2010

҉ .. فـ لا تَـرحَـل غـداً تُـقـتَـل .. ҉


*

[ وداعـاً قـد دنـى صبـح الـرزايا
ألا يـا راحـلاً نحـو المنـايا ]
*
حل ظلام ليل العاشر الكئيب ، المليء بالأحزان والشجون ، فغداً تقتل الرجال وتبقى زينب ، تواجه صفعات الدنيا وحدها بلا والي ولا كفيل ، ما عدا عليل الى جانبها تداري علته حتى يشفى ، وايتام تبحث عن آبائها الصرعى في الوغى ، والأمهات الثكلى المفجوعة بفلذات أكبادها . كل هذا بكفة ، وحزن زينب وأساها بكفة .
كانت تطوف حول الخيام ، توصي حتى الرمال بنصرة الحسين عليه السلام ، طافت على خيام بني هاشم ، فرأت العباس عليه السلام متوسطاً اخوته وبني عمومته يقول لهم : ( ماذا تفعلون يوم الصباح؟ ) ، فأجابوه : ( أأمرنا وسوف نمتثل الى أمرك ) .
فقال لهم : ( لابد لنا أن نقاتل أولاً ، فنحن أهل بيت الحسين . حتى لا يقول الأعداء قدموا أصحابهم فلما بقوا وحيدين فريدين برزوا للقتال ) .*

ابتسمت زينب عليها السلام لما سمعته ، ثم مرت على خيمة الأنصار ، ووجدت حبيب بن مظاهر مجمعاً الأصحاب حوله وهو جاث على ركبتيه في وسطهم يكلمهم : ( أصحابي ، ماذا تفعلون اذا أصبح الصباح؟ ) ، فقالوا : ( يا حبيب أأمرنا وسوف نمتثل الى أمرك )

قال لهم : ( لابد لنا أن نقاتل أولاً . حتى لا يقول القوم قدموا أسيادهم ثم برزوا للقتال )
فاستبشرت زينب لما رأته من تسابق للشهادة ونصرة الحسين عليه السلام . فكلمة الحسين : ( هيهات منا الذلة ) ، صارت وساماً ارتداه جميع أصحابه وأنصاره . رأوا الموت في نصرته أحلى من العسل ، كما قال القاسم لعمه الحسين عليه السلام . فهو على صغر سنه ، محب لعمه الحسين ، مناصراً له ، رافعاً كلمة الحق ضد الباطل ، غير مبالي بالموت قتلاً مادام في نصرة عمه الحسين .
هم لا يرون للحياة بعد عين الحسين معنىً ولا طعم ، كما قال العباس عليه السلام ، ذاك الأخ الوفي المخلص والأمين ، خير كفيل ، الفدائي ، الذي قدم اخوته من أمه فداءً لسيده ومولاه .
*
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لوصيه علي بن أبي طالب عليه السلام ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ) . فكان العباس لأخيه مثلما كان الأمير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . نِعم الأخ المواسي لأخيه ، المعين له في الشدائد .
*
[ تـودّع أهـلـيـهـا الـكــرامَ وتـنـثـنـــي * مـع الـلّـيـل مـن فـرط الأســـى تـتـكـلّـمُ
تـقـول لـه يـا لـيـلُ رفـقــاً بـحـالـنـــا * فـأنـت بـنـا مـن شـمـس صـبـحــكَ أرحـمُ ]
*
أطالت مع الليل حديثها ، تخشى رؤية خيوط النهار وطلوع الشمس . ترجو الليل أن يطيل ظلامه ، لكي يسنح للطاهرات بوداع أحبائها ، وللأطفال بالتزود من أحضان آبائها . هذه العشية ، هي آخر عشية بين اخوتها ، وغداً يهجم جيش الضلال عليهم ، يقتلون ابن النبي وأصحابه الأبطال . أبطالٌ ليس لهم في وجه الأرض شبيه .

سمع علي بن الحسين العليل صوت أباه ، وهو يخطب في أصحابه في تلك العشية الحزينة ، فدنى حتى يسمع ما يقول . وقال الحسين لأصحابه ، بعدما حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله : ( اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن ، وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين . أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا خيراً )



وأضاف قائلاً : ( هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري ) .
*
وكان أول المتكلمين هو أخاه العباس عليه السلام : ( ولم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً )
ولما تكلم أبناء مسلم بن عقيل بنحو هذا الكلام ، قال لهم خامس أصحاب الكساء : ( يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا قد أذنت لكم )
فأجابوه : ( فما يقول الناس؟ يقولون : إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل . ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا ، وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبح الله العيش بعدك )
*
وقال صاحبه مسلم بن عوسجة : ( نحن نخليك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذ العدو؟ لا والله لا يراني الله أبداً وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمة بيدي ، ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، ولم أفارقك أو أموت دونك )
*
جلس أبي عبدالله الحسين عند باب خيمته ، يصلح سيفه وهو ينشد :
*
يـا دهـر أف لـك مـن خـلـيـل * كـم لـك بـالإشـراق والأصـيـل
مـن صـاحـب أو طـالـب قـتـيـل * والـدهـر لا يـقـنـع بـالـبـديـل
وإنـمـا الأمـر إلـى الـجـلـيـل * وكـل حـي سـالـك الـسـبـيـل
*
فسمعته زينب عليها السلام ، وقد أفجعها نعي الحسين نفسه ، ولم تملك نفسها وذهبت تجر أذيالها الى الحسين عليه السلام ، فلما وصلته قالت : ( وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة . اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن )

ثم لطمت نفسها وبكت ، فنظر إليها الحسين وترقرقت عيناه بالدموع وقال لها :
( يا أختاه اتقي الله ، وتعزي بالعزاء . واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون . وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده . جدي خير مني وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة ) .
*
فعزاها الامام وصبرها . وعرفت من كلامه أنه متيقن بالقتل . وقال لها يوصيها : ( يا أختاه إني أقسمت عليك فأبرِّي قسمي ، لا تشقي عليَّ جيباً ، ولا تخمشي عليَّ وجهاً ، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت )
**
وقضت زينب الكبرى الليل بالوداع والدموع . وقضى الحسين وأصحاب الحسين الليل بالصلاة والدعاء ، والاستغفار والتضرع .
وسمع السجاد أباه يتلوا هذه الآية :
*
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب }

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق