الثلاثاء، ديسمبر 14، 2010

وهنا الأكبرُ لاقى حتفهُ = وهنا القاسم ُ ضحّى بالوتين

*

دخل رجل نصراني الى مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يعلن اسلامه ، فقد رأى في رؤياه أنه نظر الى شخص الرسول الأعظم وأسلم على يده ، وينوي أن يجدد اسلامه على رجل من أهل بيته . فدلوه الناس على دار خامس أصحاب الكساء ، الامام الحسين عليه السلام ، فدخل عليه وقص عليه رؤياه فنطق الشهادتين وقال له الامام : ( أتحب أن آتيك بشبيه رسول الله؟ )

فقال له : ( نعم سيدي )

فدعا الحسين ولده علي الأكبر ، وكان طفلاً آنذاك ، فلما رأى الرجل جمال وجهه ونوره الساطع ، انبهر من شدة جماله وهيبته . وقال له الحسين : ( ما تفعل اذا كان عندك مثل هذا الولد وأصابه أذىً أو جرح بسيط؟ ) ، فقال : ( أفجع به يا سيدي ولعلي أموت! )

فقال الحسين عليه السلام : ( أما أنا فأرى ولدي هذا مقطعاً بالسيوف ارباً ارباً )
*
[ صـورة الطـف تجـلت لونـها لـون العـذاب
هكـذا الأكـبر كالبـدر علـى حـر التـراب ]

*
وكان أول البارزين من بني هاشم هو علي الأكبر . وكان شاباً قد بلغ السادسة والعشرين من عمره . جاء الى والده الحسين يستأذنه في البراز ، ولم يكن هذا هين على قلب المولى أبا عبدالله ، فأرخى عينيه الى الأرض وفاضت دموعاً ، وقال لولده : ( ولدي علي هلم إلي ، أودعك وتودعني ، أشمك وتشمني ) . فتعانقا ساعة حتى غشي عليهما من كثرة البكاء والنحيب .

فلما أفاقا رفع الحسين عيناه الى السماء وقال : ( اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك محمد . وكنا اذا اشتقنا الى نبيك نظرنا الى وجه هذا الغلام . اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرقهم تفريقاً ، ومزقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلونا )

وصاح بعمر بن سعد : ( يا عمر بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ، ولا بارك الله لك في أمرك وسلط الله عليك من يذبحك على فراشك )

فعلم علي الأكبر أن أباه قد أذن له وأعطاه الرخصة . فبرز الى القوم وهو يرتجز : ( أنا علي بن الحسين بن علي ، آليت ألاّ أنثني ، أحمي عيالات أبي ، أضربكم بالسيف حتى ينثني ، ضرب غلام هاشميّ علويّ ، والله لا يحكم فينا ابن الدعي ) . فقاتلهم بشجاعة وبسالة ، والحسين ينظر الى ولده ويتهلل وجهه نوراً وسروراً بشجاعة ولده علي ، وليلى تنظر في وجه الحسين وهي مطمئنة ، فمادام وجه الحسين يشرق نوراً فهذا يعني أن ولدها بخير . حتى تغير لون وجه الحسين فانقبض قلبها وقالت : ( سيدي أرى لون وجهك قد تغير هل أصيب ولدي بسوء؟ )
فقال لها : ( لا يا ليلى ولكن برز إليه من يُخاف منه عليه . يا ليلى ادعي لولدك فإني سمعت جدي رسول الله يقول أن دعاء الأم مستجاب بحق ولدها ) .
*
فدخلت الأم الى الخيمة ورفعت يديها ، متضرعة الى ربها ، قائلة بصوت خاشع حزين : ( الهي بغربة أبي عبدالله ، الهي بوحشة أبي عبدالله ، الهي بعطش أبي عبدالله . يا راد يوسف الى يعقوب ، اردد إليّ ولدي علي ) . وما زالت تدعو حتى سقطت مغشياً عليها .

واستجاب الله دعاء أمه وعاد علي الأكبر سالماً الى والده وقد قتل أشجع الفرسان . فخاطب أباه : ( أبه العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء ) . فبكى الحسين وقال : ( ولدي علي اصبر قليلاً فسيسقيك جدك المصطفى بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً )
ثم قال له : ( ولدي علي اذهب الى أمك فلقد غشي عليها من كثرة البكاء ) .

فذهب الأكبر راكضاً الى أمه وضمها إليه حتى أفاقت ورأت نور وجه ولدها يشرق أمامها . وأخذا يتوادعان وهما يبكيان ، وخرج عنها وأحست بغصة في قلبها جراء فراقه .
*
يقول حميد بن مسلم : ( خرج إلينا علي الاكبر وهو يطرد كتيبة أمامه ، ويشد عليهم يمنة ويسرة ، وكنت واقفاً والى جواري مرة بن منقذ التميمي فقال : عليّ آثام العرب إن مر علي هذا الغلام ولم أثكل به أباه . فقلت له : لا تقل هذا يكفيك هؤلاء . فقال : والله لأفعلن . فمر بنا علي الاكبر فجاهء التميمي من الخلف ، اذ لم يجرؤ أن يواجهه وجهاً لوجه ، فطعنه برمح وضرب فلقة رأسه بسيف ، فخر الاكبر على قربوس فرسه وقد انحدر الدم وجه الفرس ، فحمله الى معسكر الاعداء فاحتوشوه من كل جانب ، فهذا يضربه بسيفه وآخر يطعنه برمحه ، فقطعوه ارباً ارباً ) .
*
[ ولمّـــا أن هـوى الأكــــبر هـوى لكنـــه كبّـــر
منــــادٍ يا أبــــاه قد سقــاني جــــدي الكـــوثر ]
*
فلما بلغت روح الأكبر التراقي نادي : ( أبه عليك مني السلام ، هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الاوفى )

ولما سمع الحسين صوت علي ، انحدر الى الميدان حتى وصل إليه ، فرأى شبيه المصطفى مقطع بالسيوف ارباً ارباً . فألقى الأب المفجوع نفسه على ولده وبكى بكاءً ، أبكى الجميع معه . وقال : ( بني علي على الدنيا بعدك العفا ، أما أنت فقد استرحت من هم الدنيا وغمها وبقى أبوك لهمها وغمها ، بني قتل الله قوماً قتلوك ، ما أجرؤهم على الرحمن ، وعلى انتهاك حرمة الرسول )

وغاب شبيه المصطفى ، ورحل روح الوفاء ، فالحياة بعده مظلمة . ولهذا حضرت الحسين حالة الوفاة . فقد كان موت ولده طعنة خنجر أصاب قلبه . فأدركته زينب الكبرى قبل أن تخرج روحه من بدنه . ونادى الحسين ببني هاشم ليحملوا الأكبر ، فما كان في الحسين قدرة على حمله . وجاؤوا بحصيرة وضعوا عليها الأكبر ، لأنهم كلما حملوا جزءً سقط جزءه الآخر . وجاءته أمه في الخيمة تنعاه بدموع عينيها ، تشم أعضاؤه المقطعة وتقبلها . فهذا وحيدها قد قتل ورحل عن دنياها ، وما أبعد اللقاء ..
*
[ نــاداه والاحشـاء تــلهـب والـمـدامـع تـسـتـهـل بـدمـعـهـا الـمـدرار
يـا كـوكـبـاً مـا كـان أقـصـر عـمــره وكـذا تـكـون كـواكـب الاسـحـار ]
*
توفي أباه وهو في الثالثة من العمر . فتكفل به عمه ورباه ، فكبر وشب عوده في بيت الإمامة والرحمة . درس في مدرسة أبي عبدالله الحسين عليه السلام . وحافظ الحسين على وصية أخيه الحسن المجتبى ورعى ولده القاسم خير رعاية .
وفي كربلاء ، كان غلاماً لم يبلغ الحلم ، في الثالثة عشر ربيعاً . ولما رأى بني عمومته قد ضرجوا بدمائهم وقضوا في ساحة المعركة ، أتى الى عمه الحسين يستأذنه في البراز ، فأشفق عليه عمه لصغر سنه وقال له : ( يابن أخي أنت وديعة أخي الحسن ) ، ولم يأذن له الحسين . فمضى القاسم وجلس مهموماً مغموماً باكي العين ، حزين القلب . فتذكر أن أباه المجتبى قد أعطاه وصية ، وأخبره أنه حين يشعر بهم وألم فعليه أن يفتحها ، ويعمل ما يراه مكتوباً فيها . ففتحها ووجد مكتوباً فيها بخط أباه الكريم :
( ولدي قاسم ، اذا رأيت عمك الحسين في كربلاء وقد أحاطت به الأعداء ، فلا تترك القتال والجهاد ، ولا تبخل عليه بروحك ، لتحظى بالسعادة الأبدية )
*
وكان أشبه الناس بالحسن المجتبى ، فألبسته أمه ثوب أبيه وعمامته . ومضى الى عمه الحسين ، ولما رآه تذكر أخيه الحسن ، وهاجت به ذكرى الأخ الذي قضى مسموماً ، ونظر الى وصية أخيه فأجهش بالبكاء وعانق ابن أخيه . فقال القاسم : ( يا عماه لا طاقة لي على البقاء وأرى اخوتي وبني عمومتي مجزرين على الرمضاء ) .
فقال له باب الله : ( يا ولدي أتمشي برجلك للموت؟ )
فرد عليه : ( وكيف لا يا عم وأنت بقيت بين الأعداء وحيداً فريداً ، لا ناصر لك ولا معيناً . روحي لروحك الفداء ، ونفسي لنفسك الوقاء )
فسأله عمه : ( ولدي قاسم كيف الموت عندك؟ )
فأجاب الفتى : ( يا عم في نصرتك أحلى من العسل )
*
فمضى القاسم للعسكر ، شمائله شمائل أبيه الحسن ، يملك شجاعة حسنية حيدرية . كان غير عابئ بالموت ولا بالقتل ، مستخف بجمع الأعداء ، الذين اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق . وهو المتيقن بالجنة التي وعد الله للمجاهدين في سبيله .
وانقطع شسع نعله اليسرى فوقف ليشدها ، وهو في وسط الميدان ، فاستغل لعين انشغاله وقال : ( والله لأشدن عليه )
فقال له حميد بن مسلم : ( وما تريد بذلك! يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه )
فلم يأخذ اللعين بكلامه وهجم على القاسم وضربه ضربة على رأسه
*
[ هـــذا الحســــين حـامـلاً مـعـرِّس الحســـرات
مـنـاديـاً يـا زينـــبٌ يـا ربـةَ الثــــكلات
قـومـي أتـى عـريـســـكـم بـأفـجـع الـزفـــات ]
*
وهوى النجم صريعاً ونادى : ( أدركني يا عماه ) . فتقطع قلب عمه حينما سمع ندائه وأسرع راكضاً إليه فضرب قاتله بالسيف فقطع يده ، وسقط على الأرض ، فأسرع القوم لنجدة صاحبهم ، ولكنه هلك ومات تحت حوافر الخيل . وما انجلت الغبرة إلا والحسين جالس عند رأس القاسم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، والحسين يقول :
( بُعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدك وأبوك . عز على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يعينك ، أو يعينك فلا يغني عنك . هذا يوم والله كثر واتره وقل ناصره )
*
فحمله الحسين وكانت رجلا القاسم تخطان على الأرض جراء انحناء ظهر الحسين لمصيبته . ذهب به الى خيام القتلى وطرحه الى جنب ولده علي الأكبر وأخذ يقلب نظره بين القاسم وبين الأكبر وهو يبكيهم ، وقد تصدع قلبه لمقتلهم . فأتت إليه الحوراء زينب ، تستأذن من الحسين ، فرملة تريد الدخول لتنظر الى ثمرة فؤادها القاسم . فخرج الحسين ودخلت أمه وألقت بنفسها على بقية زوجها الحسن ، تصبر نفسها بفقد عزيزها الذي تراه أمامها مخضب بدمه . بكت حتى كادت روحها أن تزهق . نادته ولم يجب على ندائها ، فانكبت على صدره تقبله وتمسح الدم من على وجهه ورأسه .
*
وشاركتها ليلى بالرثاء والنحيب والأنين . أمهات ربين أولادهن ، رأوهم يكبرون أمام أعينهن ، شباب في ربيع أعمارهم ، وفي كمال جمالهم ، ولكل منهن أماني أن يكبر ابنها الى جانبها ، ويساعدها في شيبها اذا هي كبرت . وتناثرت آمالهن على رمال كربلاء ..
*
[ والأكـبــر والـقـاسـم قـد مـضــيـا ومـضـت بـبـوغـاء الـطـفـوف شـمـوعُ ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق