الثلاثاء، أغسطس 31، 2010

► قتـلوا الصـلاة فـي محرابهـا ◄


[ وإن سـئـم الـبـاكـون فـيـك بـكائهـم مـلالاً فـإنـي لـلبـكـاء مـطـيـل ]
.
بات أمير المؤمنين عليه السلام اليوم الذي تلى ضربته ، معصب الرأس ، ممداً على فراشه ، ومن حوله عياله البنين منهم والبنات ، لا تهدأ لهم ونة ولا يجف منهم مدمع ، والزفير يعلوهم حسرة وكمداً । ألقت زينب وأم كلثوم بنفسيهما عليه وهما يندبانه ويقولان : ( من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا تبرح ولا ترقى ) . ففاضت دموع الأمير على خديه وهو يقلب طرفه وينظر الى أهل بيته . فدخلوا عليه الناس وهم باكون ، يعلوهم الحزن والأسى ، وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ويقول : ( أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة أمامكم ) ، فضج الناس بالبكاء الشديد ، فقام حجر بن عدي الطائي وأنشد قائلاً :
.
فـــــيا أســـــفي عــــلى الــمـولى التقي...........أبــــــي الأطــــــهار حــــــيدرة الــزكي
قتـــــله كـــــافر حــــــنــــــث زنـــيـــــم..........لعــــــين فـــــــــاســــق نــــــغل شقـــي
فـــــــيلعن ربـــــنا مـــــن حــــاد عــنكم..........ويــــــبرء منــــــــكم لعـــــــناً وبــــــيّ
لأنـــــكم بـــــيوم الحــــــشــــر ذخـــري...........وأنــــــتــم عـــــدة الهـــــادي النـــــبي
.
فلما بصر به الإمام وسمع شعره سأله : ( كيف بك إذا دعيت إلى البراءة مني؟ فما عساك أن تقول؟ )
فقال : ( والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً ، وأضرم لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك ) . كان جوابه نابعاً من عشقه لإمامه ، رأى التضحية بالنفس أهون عليه من ترك درب أمير المؤمنين عليه السلام . وعلى مر الدهور ، سطر محبوا الامام أروع الأمثلة في الفداء والتضحية ، سالت دمائهم على أرض العشق ، وقدموها رخيصة لتراب الامام حباً له وكرامة ، وما حادوا شبراً عن نهجه المستقيم .
وأسر ابن ملجم وقيدوه ، فكان الامام يوصي ابنه الحسن ويقول له : ( ارفق يا ولدي بأسيرك ، وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرتجف خوفاً وفزعاً؟ ) ، وأمره أن يسقوه من ما يشربون ويطعموه من ما يأكلون ، وإن توفي الأمير من ضربته فضربة بضربة وأن لا يمثلوا بجسده فإن المثلة حرام ولو بالكلب العقور . وكلما شرب الامام لبناً أمرهم بأن يأخذوا الإناء ويشربوا قاتله من نفس اللبن ، فما أرحمك يا ولي الله !
.
[ إذا كان هذا صنعك بقاتلك واحسانك إليه ، فكيف بمحبيك؟ ]
.
وكان الناس متجمعون عند دار الأمير عليه السلام ، فخرج إليهم الإمام الحسن عليه السلام وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف ، فانصرف الناس ، ما عدا الأصبغ بن نباتة لم ينصرف ، فخرج الإمام الحسن مرة ثانية وقال : ( يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟ ) ، فقال : ( بلى ، ولكني رأيت حاله ، فأحببت أن أنظر إليه فأسمع منه حديثاً ، فاستأذن لي رحمك الله ) . فدخل الحسن عليه السلام ولم يلبث أن خرج وأذن له بالدخول . فدخل الأصبغ على المولى علي عليه السلام وكان مستنداً معصوب الرأس بعمامة صفراء ، ولم يعلم الأصبغ أيهما أشد صفرة وجه الإمام أم العمامة ! فأكب عليه باكياً وقبله ، فخاطبه الإمام قائلاً : ( لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة ) . وكان الأصبغ متيقناً ، علم اليقين ، أن الجنة جزاءه ، لكنه كان يبكي فقده ، يبكي على دنياً لن يكون فيها نور الامام عليه السلام .
.
ولما جن عليهم ظلام ليلة الواحد وعشرين ، حضر الطبيب وكشف عن الامام عليه السلام ، فقال بعد أن استعبر وبكى : ( إعهد عهدك يا أمير المؤمنين، فإن الضربة وصلت إلى الدماغ ) . فجمع الأمير أولاده وأهل بيته وودعهم وقال لهم : ( الله خليفتي عليكم ، وهو حسبي ونعم الوكيل ) . وتزايد ولوج السم في جسده الشريف حتى وصل الى قدميه واحمرتا ، فأيسوا منه ، وعرضوا عليه المأكل والمشرب فأبى ثم نادى عياله بأسمائهم فرداً فرداً وجعل يودعهم وهم يبكون . حينها ألقت الحوراء نفسها على صدر أبيها قائلة : ( يا أبه حدثتني أم أيمن بحديث كربلاء ، وقد أحببت أن اسمعه منك ) ، فأجاب : ( يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأني بك وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد ، خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس ، فصبراً صبراً ) . وتجسدت أمام الأمير مشاهد لذلك اليوم الموعود ، الذي فيه يقتل أولاده وتفرق رؤوسهم عن أجسادهم ، وتسبى بناته ، فتزايدت عليه الهموم ، فذكرى الطفوف تدمي القلب .
.
أخذ الامام يوصي أبنائه ، وأن الإمامة من بعده لابنه الحسن ومن بعده الحسين عليهما السلام ، وأن يطيعوهما ولا يخالفونهما ، ويوصيهم بوصاياه الى طلوع الفجر . ونادى الامام ولديه الحسن والحسين ، وفتح يده وضمهما إلى صدره وعيناه تهملان دموعاً ، ثم نظر الإمام إلى أولاده فرآهم تكاد أنفسهم تزهق من النوح والبكاء ، فجرت دموعه على خديه ممزوجة بدمه ، فقال عليه السلام : ( أتبكيا علي؟ ابكيا كثيراً واضحكا قليلاً ، أما أنت يا أبا محمد ستقتل مظلوماً مسموماً مضطهداً ، وأما أنت يا أبا عبد الله فشهيد هذه الأمة وسوف تذبح ذبح الشاة من قفاك وترض أعضاؤك بحوافر الخيل ويطاف برأسك مماليك بني أمية وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسبى وأن لي ولهم موقفاً يوم القيامة ) .
.
.
فأوصى سيد الأتقياء وصيته الأخيرة ، وأوصى الامام الحسن بتغسيله وتكفينه وتحنيطه ببقية حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأضاف سلام الله عليه : ( ثم ضعني على سريري ، ولا يتقدم أحد منكم مقدم السرير ، واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه ، فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر ، فحيث قام سريري فهو قبري )
ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال : ( أستودعكم الله جميعاً ، حفظكم الله ، سددكم الله جميعاً ، وهو خليفتي عليكم ، وكفى بالله خليفة ) ، وذكر الله كثيراً كثيراً ، ثم تشهد الشهادتين ، واستقبل القبلة وغمض عينيه ومدد يديه رجليه ، ثم فاضت روح المظلوم ، وقضى نحبه شهيداً ، ألا لعنة الله على ظالميه وقاتليه .
.
[ تَـأسَّـفَـتِ الـحـيـاةُ عَـلـيـكَـ لـمّـا رَحَـلْـتَ وَوَدَّعَـتْ بـحـراً نَـدِيّـا ]
.
وبكيت زينب وصرخت ، وكذلك فعل البقية ، فارتفعت الصيحة من دار ولي الأولياء فعلم الجميع أن مولاهم قد فارق الحياة ، فصاحوا صيحة عظيمة ارتجت لها الكوفة . غسلوه وكفنوه ووضعوه على السرير ، فارتفع مقدم السرير بدون أن يُرى حامله ، وكان حاملاه جبرائيل وميكائيل ، فرفع أبناء علي بن أبي طالب المؤخر وساروا حيث سار المقدم ، وخرجن النساء من خلفه نادبات لاطمات ، فردهن المجتبى عليه السلام الى الدار ، وكان الحسين عليه السلام يقول : ( من أجلك تعلمت البكاء ، والى الله المشتكى ) . وحيث وضع المقدم وضعوا المؤخر ، وصلى الحسن بالناس جماعة ، فلما فرغ ، نحى السرير وكشف التراب ، فوجد مثلما قال أباه ، وجد قبراً محفوراً ، ولحداً مشقوقاً ، وساجة منقورة ، مكتوب عليها : هذا ما ادخره نوح النبي للعبد الصالح الطاهر المطهر . فأنزلوه في حفرته وأهلوا عليه التراب ، فاختلط التراب بدموعهم ، وودعوه الوداع الأخير ..
.
.
السلام على الامام الزكي ، حليف المحراب ، السلام على صاحب المعجز الباهر ، والناطق بالحكمة والصواب ، السلام على من عنده تأويل المحكم والمتشابه ، وعنده أم الكتاب ، السلام على من ردت عليه الشمس حين توارت بالحجاب ، السلام على محيي الليل البهيم بالتهجد والاكتياب ، السلام على من خاطبه جبرائيل بإمرة المؤمنين بغير ارتياب ، ورحمة الله وبركاته .

هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم...
    عظم الله اجرك بمصاب امير المؤمنين علي(ع)...
    مدونة جميلة نتمنى لها الاستمرارية والنجاح..
    دمتي بخير...

    ردحذف
  2. أجرنا وأجرك أخي الكريم ..
    أشكرك على وجودك في مدونتي (:

    ردحذف