الأحد، أغسطس 29، 2010

~¤ بـل مقتـولُ قـتـلا ¤~



[ لـــقَـــد هـَــدَّتْ مـُــصـــيـــبَـــتُـــكَ الأنَــــامْ ]

قبل دخول شهر رمضان العظيم .. ارتقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منبره في آخر جمعة من شهر شعبان ، وأخذ يحدث الناس ويعرفهم فضل الشهر المقبل عليهم ، وما فيه من الأجر والثواب الكثير . فقام ولي الله علي بن أبي طالب وسأل ابن عمه الكريم عن أفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك ، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً : ( يا أبا الحسن ، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل ) . فاستعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بكى ، فسأله الأمير عليه السلام عن سبب بكائه ، فقال : ( يا علي ، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك وأنت تصلي لربك ، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك ، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك ) .

*

وقد صدقت نبوءة خاتم المرسلين ، وتحققت في شهر رمضان ، في ليلة التاسع عشر من عام 40 للهجرة.


كان أمير المؤمنين علي عليه السلام قد جعل افطاره في ذلك اليوم عند ابنته أم كلثوم عليها السلام ، وكان زهد الأمير عليه السلام في كل شيء ، الملبس والمعيشة وحتى في الطعام ، فكان يلبس من الثياب ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، ومعيشته بسيطة ، لا تقارن مع عظمة منزلته الكبيرة عند رب العباد وعند العباد ، وكان هدفه من كل هذا ، الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والزهد في الدنيا وابتغاء الآخرة ونعيمها الدائم ، فهو الذي طلق الدنيا ثلاثًا لا رجعة فيهم ، وهو القائل : ( أأقنع من العيش أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الحياة وأكون أسوة لهم في جشوبة العيش ، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع أو لا طمع له بالقرص ). فكان يعيش عيشة الفقراء ليكون سلوى لهم وأسوة حسنة . أتت أم كلثوم بالافطار ، وكان عبارة عن قرصان من خبز الشعير ولبن حامض وجريش ملح ، وجعلته أمام أبيها أمير المؤمنين عليه السلام ، فأطال النظر فيه ، ثم التفت وخاطبها : ( بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عز وجل يوم القيامة . أنا أريد أن أتبع أخي وابن عمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما قُدّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله . يا بنية ، ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه ، إلا طال وقوفه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة ) . فرفعت عنه اللبن الحامض ، وأفطر عليه السلام بخبز الشعير والملح الجريش . وعندما انتهى حمد الله كثيراً وأخذ في الصلاة والدعاء في تلك الليلة ، فما بين تسبيح وابتهال ، وتضرع وبكاء خشية من الله تعالى . وكان عليه السلام يكثر من الخروج والنظر الى السماء ويقول : ( هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فما كذب الأمير عليه السلام ولا كُذِّب . وكان يعود الى مصلاه قائلاً : ( اللهم بارك لي في الموت ) ، ويكثر من قول إنا لله وأنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

*

ولما قرب موعد أذان الفجر ، اتجه أبا الحسن يريد الخروج ، وكان في الدار إوزات ، فلما رأينه صحن في وجهه ، فقال : ( صوائح تتبعها نوائح ) ، وذهب الى الباب فتعلق مئزره بالباب فقال :


أشــدد حيازيمك للموت..........فـــــإن المــــوت لاقـيكــا
ولا تــــجزع من الموت..........إذ احــــــلّ بـــــواديــــكـا
كما أضــــحـــكك الـدهر...........كـــــذاك الــدهر يبـكيكا


ومشى طوال الطريق الى مسجد الكوفة ، وهو يستذكر السنين التي قضاها ، والتي جمعته بابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجته البتول عليها السلام ، ومصيبتهما ، وما لاقى بعدهما من الهموم والأكدار ، ولهيب الشوق يزداد يوماً بعد يوم ، وطول الفراق يؤرق جفنه ويقض مضجعه ، وما أقرب اللقاء بهما الآن !

*

دخل المسجد ، وأخذ يوقظ النائمين فرداً فرداً ، حتى وصل الى ابن اليهودية ، عبدالرحمن بن ملجم المرادي ، وكان مضطجعاً على بطنه ، فخاطبه : ( يا هذا قم من نومتك هذه فإنها نومة يمقتها الله ، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار ، بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء ، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء ، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء ) ، وأردف قائلاً : ( لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ) . وكان ابن ملجم قد أخفى سيفه تحت إزاره . ارتقى حيدر المئذنة وأخذ يؤذن : ( الله أكــبــر ، الله أكــبــر .. ) ، فما بقى بيت من بيوت الكوفة إلا ودخله صوت أمير المؤمنين عليه السلام ، وكأنه بصوته يودع البيوت والشوارع ، وزوايا الكوفة عاصمة إمامته ، فكان هذا الأذان آخر أذان يسمعه كل الوجود بصوت وصي الرسول الأكرم . نزل الامام عليه السلام لكي يصلي نافلة الصبح في محرابه ، ومن خلفه وقف اللعين ، ركع وأطال الركوع ، وهوى المولى الى السجدة الأولى ، أطال فيها ، سبح الله وكبره ، وناجاه مناجاة الملتجئين الى الله ، كان بحق عبداً لله ، قانعاً راضياً بما قسمه الله له ، واثق من قرب الجليل إليه ، راغباً في مرضاته ، هارباً من غضبه وسخطه ، فكان هو العاشق والله هو المعشوق ..

*

[ لبس الإســــــلام أبـــــــراد الســــــّواد .... يوم أردى المرتضى سيف المــــرادى ]

*

خرّ صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين . خرّ المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، ولسان حكمة العابدين ، وناصر دين الله و ولي أمر الله ، وبستان حكمة الله و عيبة علمه . خرّ السَمحُ السخيُ البهيّ ، البُهلولُ الزكيّ الأبطحيّ ، الرضيّ المِقدام الهمام ، الصابرُ الصوّام ، المهذَّبُ القَوّام . خرّ الأسد الباسل ، خرّ من كان للعرب سيدها ، وللوغى ليثها . خرّ أبو السبطين مخضباً بدمائه الزاكية الطاهرة ، فقد أشهر اللعين سيفه وهوى به على رأس المولى علي عليه السلام حينما رفع هامته الشريفة من السجود ، فصاح ابن ابي طالب : ( فزت ورب الكعبة ) ..

وصاح جبرئيل في السماء : ( تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى ، وانفصمت العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى ، قتل الوصي المجتبى ، قتل علي المرتضى )

تجمهر الناس عند مسجد الكوفة ، ضجوا بالبكاء حينما رأوا مولاهم غارقاً في بحر دمائه ، غرقوا في محيط أحزانهم وهمومهم ودموعهم ، أسرع الحسنان الى أبيهما ، وقد أفجع قلبيهما منظره ، رأوه والدماء تسيل على وجهه وشيبته ، مشقوق الرأس ، مصفرّ الوجه من شدة السم. فتقدم الحسن عليه السلام لكي يصلي بالناس ، وقد جلس أمير المؤمنين ، لا يقدر على النهوض . لقد جزع الحسن والحسين من حالة أبيهم ، فكان النحيب يطول ، والأنين لا يزول ، والأب العظيم يهوّن على أبنائه الروع ، ثم طلب الامام من أبنائه أن يحملوه الى المنزل فلا طاقة له بالنهوض.

حمل الحسنان أبيهما ، والجموع من حوله باكون محزونون ، قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب ، واتجها به الى البيت ، ورأت زينب أبيها محمولاً على الأكتاف ونادت : ( وا أبتـــاه وا عليــــاه )

[ لــــم أنـــس زيـــــنب مذ رأته وجسمه.........مـــــن فــــيض مفـــرقه الشريف ملفع
فــــغدت تخـــــضب شــــعرها لمـصابه..........وعـــــليه تــــــذرف دمـــــعها وتـــفجع ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق