الأربعاء، يونيو 30، 2010

كيف صبرت؟




قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من بكى على مصائب هذه البنت ، كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين).
.
.
بهذه الكلمات أعلن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم منذ ولادة زينب بنت علي ، أن حياتها ستكون مشحونة بالمصائب والرزايا كما أخبره الأمين جبرائيل ، فبكى الجد حزناً لما ستراه حفيدته من محنٍ ومآسي.
عاشت زينب أعوامها الأولى في ظل جدها العظيم رسول الله ، وفي حضن أمها الزهراء ، وفي مدرسة أبيها باب علم رسول الله ، تنهل من العلم الالهي وقد أعطاها الله سبحانه وتعالى من علمه الكثير ، فكانت المعرفة تتفجر من جوانبها منذ نعومة أظفارها ، حتى قال عنها ابن أخيها زين العباد : ( أنتِ بحمدالله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهّمة ) .
لكن لم تسلم بنت الزهراء من صفعات الدنيا وغدرها ، فأضحت للبلايا قبلتها وللزايا كعبتها ، فأول بلية ورزية كانت فقدان جدها رسول الله وما جرى بعده من غصب لحق أمير المؤمنين ، وظلم أمها الزهراء وكسر ضلعها وسقط جنينها ولحاقها بأبيها بعد مدة قصيرة من استشهاده صلوات الله عليه وآله ، ودفنها في ظلمة الليل في قبر خُفي عن الأنظار ، فصارت يتيمة الأم وهي في الرابعة من العمر تبكي فقد أمها ليل نهار وتستذكر أيامها في زوايا البيت. وارتحلت مع أبيها من المدينة الى الكوفة التي أضحت عاصمة خلافته ، فكانت تعيش أيامها معززة مكرمة في ظل أبيها واخوتها. واتخذت داراً لتحفيظ القرآن وتدريسه ، وفي يوم سمعها ولي الله علي بن أبي طالب ، وهي تفسر كلمة {كهيعص} من أول سورة مريم ثم سألها: ( يانور عيني ، سمعتك تفسرين الآية الأولى من سورة مريم؟ ) فقالت: ( نعم ، فداك نفسي ). فقال لها أمير المؤمنين: ( إن حروف كلمة { كهيعص } إنما ترمز الى المصائب التي سترد عليكم ).
.
وكان زكريا النبي عندما يذكر أسماء أهل البيت تسري عنه الهموم وتنجلي كربه إلا عند ذكر اسم الحسين فإذا نطق به لسانه خنقته عبرته. فسأل الله سبحانه عن سبب ذلك فأنبأه الجليل بقصة الامام الحسين عليه السلام ، فالكاف اسم كربلاء والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه ، والصاد صبره ، ومنذ ذلك اليوم وزكريا يبكي الحسين ويرثيه وكان يدعو ربه أن يرزقه بابن ويفجعه به كما سيفجع خير الورى محمد صلى الله عليه وآله وسلم بولده الحسين. واستجاب الله تعالى لدعائه ورزقه بيحيى ثم فجعه به ، حيث قُتل ورُفع رأسه وكذلك فُعل بالحسين.
*
وفي ليلة من ليالي القدر وفي شهر رمضان المبارك ضُرب أمير المؤمنين على هامته التي لم تسجد لصنم ، فجلس طريح الفراش جراء ضربة اللعين ، ويتاماه حوله تودعه الوداع الأخير. واستعادت زينب جروح اليتم منذ وفاة أمها التي لم تبرأ بعد ، وها هي عادت مرة أخرى بوفاة أبيها. عادت زينب الى المدينة وأول فاجعة لقيتها هناك هي استشهاد أخيها الأكبر مسموماً ودفنه ليس الى جانب جده بل في البقيع الذي تقدس ترابه عند ملامسته لجسد الامام الحسن الطاهر ، هنا أحست العقيلة بدنو المصيبة العظمى وهي مقتل خامس أصحاب الكساء الامام الحسين مظلوماً في كربلاء ، فكل المصائب التي قبلها ماكانت تساوي شيئاً أمام ملحمة الدم التي جرت في كربلاء وما خلفتها من الكرب والبلاء ، فلا يوم كيوم أبي عبدالله الحسين كما قال الامام المجتبى عليه السلام.
*
ففي ظهر ذلك اليوم في العاشر من المحرم ، شاهدت السيدة زينب مصارع أقمار بني هاشم وفلذات أكبادها بأم عينها ، وكل مصيبة منها تهد الجبال الرواسي من هولها ، وختام تلك المصائب كانت بذبح سيد شباب أهل الجنة الامام الحسين ابن علي ، وتقدمت زينب بقلب مؤمن راضٍ بقضاء الله وقدره الى ذلك الجسد المدمىّ ، المقطوع الرأس من القفا ، واضعة يدها تحت الجسد الطاهر قائلة بصوت أليم: ( إن كان يرضيك هذا يا رب فخذ حتى ترضى ، الهي تقبل منا هذا القربان ).
*
وفي ليلة ذلك اليوم العصيب المؤلم ، لم تترك السيدة زينب وصية أخيها الحسين وحافظت عليها ، وقامت بجمع أيتامه ونساء آل محمد ، والدفاع عن علي زين العابدين العليل بجسدها كي تحميه من القتل ، وأدت صلاتها ولكن من جلوس ، ولم تكن قد جلست في صلاة قبل هذا اليوم أبداً ، فسألها السجاد عن ذلك ، فأجابت أن الجري وراء الأطفال في رمال الصحراء قد أنهكها والشوك قد دخل في رجلها ..
وفي يوم الحادي عشر ، أعلنت قافله الأحزان عن بدء مسيرتها والرحيل من كربلاء ، فطلبت النسوة أن يمروا بهن على أجساد القتلى لتودعهن الوداع الاخير ، وأخذن يبكين على أعزائهن المقطعة أجسادهم ، المطروحة على الرمضاء في لهيب الشمس ، وبينهم جسد سيد الشهداء ، وجرت دموع زينب على خديها عندما وقع نظرها على ابن أمها وقالت: ( بأبي من عسكره في يوم الاثنين نهبا ، بأبي من فسطاطه مقطع العرى ، بأبي من لا هو غائب فيرتجى ، ولا هو مريض فيداوى ، بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبته تقطر بالدماء .. )
.
.
ومن كربلاء الى الكوفة ، ومن الكوفة الى الشام ثم رجوعاً الى كربلاء منها الى المدينة ، وما تخلل هذه الرحلة الطويلة من الآلام والمآسي التي حلت على قلب السيدة زينب عليها السلام ، فأثقلتها الكروب التي أورثتها الحزن طويل ، ولم تتحمل البقاء في دار الدنيا أكثر من عام ونصف بعد الفاجعة.
ففي النصف من شهر رجب لعام 62 للهجرة ، ارتاح الجسد المثقل بالهموم ، والتحقت الروح الوالهة الى أحبابها في جنات الخلد والنعيم ، وكُتب لجسدها أن يُدفن في دولة دخلتها مسبية في ذل الأسر ، واليوم هي فيها أميرة ، ولها ضريح ارتفع بناؤه حتى عانق السماء ، فأسال الله أن يرزقنا زيارتها ، ولا يحرمنا من شفاعتها في يوم الحساب.
.
.
أبكي على زينب الكبرى وكربتها ، أبكي على زينب الثكلى وغربتها ، أبكي على زينب حزناً على محنتها ، أبكي على هضمها من بعد عزتها ، أبكي على المظلومة الغريبه ، أبكي على المحزونة الكئيبة ، أبكي على من داهمتها الدنيا بالمشاهد الرهيبة ، ولم تشبه مصيبتها مصيبة ، أبكي على من عاينت أشلاء الضحايا مجزرين على صعيد المنايا ، ورأت مصاررع الشهداء من عشيرتها واخوتها ، وبني عمومتها قد فرق السيف بين الرؤوس منهم والأبدان ، وحرارة الشمس قد غيرت منهم الألوان ، وبينهم ريحانة المصطفى سيد شباب أهل الجنة صريعاً على الرمضاء ، أبكي على من أبكت كل عدو وصديق حتى جرت دموع الخيل على حوافرها ، أبكي على من أبعدها الزمان عن الأهل والأوطان، وطاف بها الأعداء سبية في البلدان ، وسروا بها أسيرة من الكوفة الى الشام ، بجمع من الأرامل والأيتام ، سلام على سيدتنا ومولاتنا زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق