الثلاثاء، فبراير 15، 2011

<< العـودة الـى الـديـار >>


*
[ شـاخ الـعـتـب سـيـدي فـأصْـغِ لـنـجـوى زيـنـبَ تـنـطـقُ غـربـةً وتـكـتـمُ اخـتـنـاقـا
فـدرب الـمـديـنـةِ حـنَّ لـحـدوِك اشـتـيـاقـا ]
*
سئل الامام زين العابدين عليه السلام عن سبب استعجاله في الخروج من كربلاء والعودة الى المدينة المنورة فقال : ( خفت على عمتي زينب أن تموت لأنها لا تنام ولا تشرب ولا تأكل وكان شرابها وأكلها ونومها البكاء ، تقوم من قبر وتجلس عند قبر آخر )
*
كانت السيدة زينب مدة بقائها في كربلاء تطوف حول القبور ، من قبر سيد الشهداء الى قبر العباس عند نهر الفرات ومنه تعود الى قبر أبي عبدالله ، صار طوافها كالذي يطوف بين جبلي الصفا والمروة ، تقوم وتقعد من التعب والبكاء ، ثم تتوجه الى زين الشباب علي الأكبر والقاسم بن الحسن وتنوح وتبكي شبابهم وربيع أعمارهم ، ثم تتوجه الى قبور الأنصار الذين لم يقصروا في نصرة أبي عبدالله الحسين عليه السلام . وكذلك كان الحال مع بقية النساء .
وحينما رأى الامام زين العابدين عليه السلام منها ذلك ، خشي عليها من الهلاك ، فأمر النسوة بتوديع قبور الأحبة ، فلقد حان وقت رجوعهم لمدينة جدهم . وكانت مدة بقائهم في كربلاء ثلاثة أيام .
*
سارت قافلة الأحزان تشق طريقها في الصحراء عائدة الى ديارها ، الديار التي غادروها وكان على رأسهم سيدهم ومولاهم الحسين والأقمار المنيرة من أهل بيته ، معززين مكرمين في ظل حماتهم . والآن يعودوها مطأطئي الرؤوس ، محدودبي الظهر من المصيبة العظيمة والأهوال التي لاقوها والرزايا الجليلة .
وحينما لاحت في الأفق أسوار المدينة المنورة ، رفعت أم كلثوم رأسها وقالت بحزن :
*
مـديـنـة جـدّنـا لا تـقـبـلـيـنـا فـبـالـحـسـرات والأحـزان جـيـنـا
خـرجـنـا مـنـك بـالأهـلـيـن جـمـعـاً رجـعـنـا لا رجـال ولا بـنـيـنـا
*
ولما قرب الموكب من المدينة نزل السجاد فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال لبشر بن حذلم : ( يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شيء منه؟ )
قال بشر : ( نعم يابن رسول الله إني لشاعر )
فقال عليه السلام : ( فادخل المدينه وانع أبا عبدالله )
*
فركب فرسه وركض حتى دخل المدينة فلما بلغ مسجد النبي رفع صوته بالبكاء وأنشأ يقول :
*
يـا أهـل يـثـرب لا مُـقـام لـكـم بـهـا قُـتـل الـحـسـيـن فـأدمُـعـي مـدرارُ
الـجـسـم مـنـه بـكـربـلاء مـضـرجٌ والـرأس مـنـه عـلـى الـقـنـاةِ يُـدار
*
ثم قال : ( هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أُعرفكم مكانه )
فقالت امرأة : ( أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبدالله وخدشت منا قروحا لم تندمل فمن أنت يرحمك الله؟ )
قال : ( أنا بشر بن حذلم وجهني مولاي علي بن الحسين وهو نازل مع عيال أبي عبدالله ونسائه )
*
فما بقيت في المدينة مُخدَّرة إلا وبرزت من خدرها ، ضاربة وجهها داعية بالويل والثبور ، فلم يُرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمر على المسلمين منه .
*
[ والـبـقـايـا بـجـمـر الـحـنـيـن إنـه صـوت أم الـبـنـيـن ]
*
أتت امرأة ناحية الناعي تشق الصفوف ، فلما وصلت إليه سألته : ( ما الخبر؟ )
فالتفت وسأل من حوله عن هذه المرأة فقيل له أنها أم البنين ، أم العباس واخوته . فقالت له : ( يا بشر أسألك بالله هل الحسين حي أم لا؟ )فأراد بشر أن يخبرها بشهادة أبنائها واحدا بعد الآخر لتخفيف الألم عنها ، فقال لها : ( يا أم البنين عظم الله لك الأجر بولدك جعفر )
قالت : ( وهل سمعتني اسألك عن جعفر؟ )
فقال لها : ( عظم الله لك الأجر بولدك عبدالله )
قالت : ( يا بشر أخبرني عن الحسين )
فقال : ( عظم الله لك الأجر بعثمان )
فأعادت عليه سؤالها عن أبي عبدالله فقال : ( يا أم البنين عظم الله لك الأجر بقمر العشيرة أبي الفضل العباس )
قالت : ( ويحك لقد قطعت نياط قلبي ، أخبرني عن الحسين )
فقال لها بشر : ( يا أم البنين عظم الله لك الأجر بأبي عبد الله الحسين )
*
فما إن سمعت بالخبر، صرخت مولولة ورجعت إلى دار بني هاشم منادية :
*
ألا لا تُـزار الـدار إلا بـأهـلـهـا عـلـى الـدار مـن بـعـد الـحـسـيـن سـلام
*
وأسرع الناس الى حيث نزل الامام عليه السلام وازدحموا حول فسطاطه ، فخرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، فأخرج الخادم له كرسياً فجلس عليه وهو لا يتمالك نفسه من العبرة ، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال :
*
( الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى . نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة . إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .
أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ، فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان ولجج البحار ، والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون . وأي قلب لا يتصدع لقتله ، وأي فؤاد لا يحن إليه ، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم . أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق ، والله لو أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام )
*
فضج الناس بالبكاء والعويل ، وحزنت مدينة الرسول حزناً عميقاً على العترة الطاهرة وأقامت أياماً بلياليها تشهد المأتم الرهيب .
*
[ يـا راجـعـيـن الـسـبـايـا قـاصـديـن إلـى أرض الـمـديـنـة ذاك الـمـربـع الـخـضـر
خـذوا لـكـم مـن دم الأحـبـاب تـحـفـتـكـم وخـاطـبـوا الـجـد هـذي تـحـفـة الـسـفـر ]
*
ثم زحف الإمام مع عمّاته وأخواته وقد أحاطت به الجماهير وعلت أصواتهم بالبكاء والعويل ، فقصدوا الجامع النبوي ، ولمّا انتهوا إليه أخذت العقيلة بعضادتي باب الجامع ، وأخذت تخاطب جدها الرسول وتعزيه بمصاب ريحانته قائلة : ( يا جدّاه، إنّي ناعية إليك أخي الحسين )
وكانت تعزي أمها بفلذة كبدها الحسين وتشكو لها لواعجها وهموهما وأحزانها ، وما لاقته من بعد حماتها .
وأقمن العلويات المأتم على سيّد الشهداء ، ولبسن السواد ، وأخذن يندبنه بأقسى وأشجى ما تكون الندبة .
وكان الدليل الذي أتى بهم من الشام الى كربلاء ومنها الى المدينة رحيما رؤوفا بهم . فالتفتت امرأة من النساء الى العقيله زينب وسألتها : ( لقد أحسن هذا الرجل إلينا فهل لك أن نصله بشيء؟ )
فأجابتها العقيلة : ( والله ما معنا شيء نصله به إلاّ حلينا )
*
فأخرجا سوارين ودملجين ، وبعثتا بهما إليه واعتذرتا له ، وتأثّر الرجل من هذا الكرم الغامر وهو يعلم ما هن فيه من الضيق والشدة ، فقال لهما باحترام : ( لو كان الذي صنعت للدنيا لكان في هذا ما يرضيني ، ولكن والله ما فعلته إلاّ لله ولقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم )
*
ورأت النساء دار الحسين وأهل بيته ، خالية من ساكنيها موحشة ، فقدت أنوارها وحلت محلها الظلمة الحالكة ، واختفت صدى أصواتهم العذبة منها . والتقت الفاقدات بالعليلة فاطمة ، الحزينة ، ورأت الركب قد عاد دون أبيها ودون اخوتها ودون أعمامها ، فصاحت وأنت أنينا يقطع نياط القلوب .
*
وارتمت العقيلة على صدر زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة ، تشكو لها المصاب ، منذ ظهر يوم عاشوراء ، وقتل الحسين عطشان واحراق الخيام ، وسلب النساء وفرارهن في البراري ، وعطش الأطفال وموت البعض منهم عطشاً ، ورحيلهم عن أرض كربلاء تاركين ريحانة النبي وأهل بيته وأصحابه مرملين بالدماء على الثرى ، وسوقهم سبايا مغلولي الأيدي والأعناق ، يحدونهم بضرب السياط ، ودخولهم الكوفة عاصمة خلافة أمير المؤمنين مذلولين ، وما جرى في قصر ابن زياد ، وجمهور الكوفة ، ثم الطريق الى الشام ، وملاقاتهم اللعين يزيد ، وضربه لثنايا أبي عبدالله بالقضيب دون مراعاة لقرابته من الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وموت رقية صغيرة الحسين في الشام وتركها هناك غريبة في تلك الديار ، والعودة في يوم الأربعين الى كربلاء . كل تلك المآسي والمحن ألقتها على زوجة الرسول الكريم ، والدموع تنهمر منهما ولا تجف . وبلغ بأم سلمة الحزن ، حتى أنها توفيت بعد المصاب بزمن قليل ، توفيت أثر الحزن والأسى على سيد شباب أهل الجنة .
*
[ لـقـد سـال دمـعٌ لأم الـبـنـيـن
نُـواح الـثـكـالـى بـه يـسـتـعـيـن ]
*
عندما نزلت الحوراء زينب في دارها ، أقامت المأتم على أبي عبدالله وقالت لجاريتها أن لا تدخل عليها أحد الا من شاركتها في مصابها في كربلاء . وطرقت الباب فقالت الجارية للطارق أن مولاتها أمرتها بأن لا تدخل عليها أحد ، فأجابها الطارق : ( قولي لها أنا أم البنين )
فجاءت الجارية وأخبرت العقيلة فأجابتها : ( أدخليها فإنها شريكتنا في المصاب )
وأتت أم البنين تضم الحوراء وزينب تضمها وتبكي ، تلك تعزيها بسيد الشهداء وزينب تعزيها بالعباس وأبنائها الثلاثة ، تعزيها بالقمر الذي انطفى نوره ، تعزيها بالكفان اللتان قطعتا ، تعزيها بالبدور التي خسفها الردى .
وخطت أم البنين خمسة قبور رمزية في مقبرة البقيع ، أربعة لأولادها والقبر الخامس لسيد الشهداء الحسين عليه السلام ، تبكي عليهم ، وتندبهم بندبة حزينة تحرق قلب كل من سمعها ، حتى قلب مروان بن الحكم ، عدو آل أبي طالب . واستمرت لوعتها وأحزانها حتى وفاتها .
وكان كلما يناديها شخص بأم البنين ترثي أبنائها وتقول :
*
لا تـدعـونّـي ويـك أم الـبـنـيـن تـذكـريـنـي بـلـيـوث الـعـريـن
كـانـت بـنـون لـي أُدعـى بـهـم والـيـوم أصـبـحـت ولا مـن بـنـيـن
أربـعـة مـثـل نـسـور الـربـى قـد واصـلـوا الـمـوت بـقـطـع الـوتـيـن
تـنـازع الـخـرصـان أشـلائـهـم فـكـلـهـم أمـسـى صـريـعـاً طـعـيـن
يـالـيـت شـعـري أكـمـا أخـبـروا بـأن عـبـاسـاً قـطـيـع الـيـمـيـن
*
وظلت النسوة لابسة السواد ، ترثي الحسين وتندبه ، لا تزور شفاههن بسمة ، ولا يقدم لهن طعام وشراب الا ويتذكرن عطش وجوع أبا عبدالله .
فقد قال الصادق عليه السلام : ( ما اكتحلت هاشمية و لا اختضبت و لا رئي في دار هاشمي دخان خمس سنين حتى قتل عبيد الله بن زياد )
*
أما الرباب زوجة الامام الحسين ، فكانت هي وابنتها سكينة أحب النساء الى قلب أبي عبدالله الحسين ، وقد لاحظ الناس عليه محبته لهاتين السيدتين فأنشد يوماً :
*
لـعـمرك إنـي لأُحـب داراً تـحـل بـهـا سـكـيـنـة والـربـاب
أحـبـهـمـا وأبـذل جـل مـالـي ولـيـس لـلائـمـي فـيـهـا عـتـاب
ولـسـت لـهـم وإن عـتـبـوا مـطـيـعـاً حـيـاتي أو يـعـلـيـنـي الـتـراب
*
ومن بعد مصيبة عاشوراء ، ما استظلت الرباب بظل أبداً ، ولا جلست تحت سقف يحميها من حرارة الشمس أو برد الشتاء ، فكيف تستظل وتجلس تحت سقف وقد رأت بأم عينيها ريحانة رسول الله تصهره حرارة الشمس ، مرمي بالعراء فوق لهيب الثرى ، وظلت هكذا حتى تقشر جلدها وذاب لحمها وتوفيت حزناً وكمداً على أبي عبدالله الحسين عليه السلام .
ومن مراثيها على الامام الحسين عليه السلام :
*
واحـسـيـنـا فلا نـسـيـت حـسـيـنـا قـصـدتـه أسـنـة الأدعـيـاء
غـادروه بـكـربـلاء صـريـعـا لا سـقـى الله جـانـبـي كـربـلاء
*
ولم تبق العقيلة زينب بعد استشهاد أخيها عمراً طويلاً ، فقد توفيت سلام الله عليها بعد واقعة الطف بسنة ونصف .
أما الامام زين العابدين عليه السلام فلم يزل ليله ونهاره باكي العين على سيد شباب أهل الجنة ، وكان ألمه يزداد كلما رأى امرأة شهدت معه كربلاء ويقول : ( ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة )
*
[ مـا جـرى شـيءٌ عـظـيـمٌ مـا جـرى أبـكـى الـسـمـا
مـا جـرى أمـرٌ رهـيـبٌ مـا جـرى فـتَّ الـحـشـا ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق